لينا فخر الدين
أمس، كان يوم صيدا بامتياز. وبالرغم من تصعيد إمام «مسجد بلال بن رباح» الشيخ أحمد الأسير، والحديث عن «سوبر» إجراءات أمنية للجيش وقوى الأمن الداخلي، إلا أن «عاصمة الجنوب» كانت «تعيش حياتها» أمس، غير آبهةٍ بالتحذيرات.
تبدأ زحمة السير من جسر نهر الأوّلي، ولا تنتهي عند ساحة النجمة، في وسط المدينة. زحمة المحال التجارية تعادل زحمة السير، هنا «السولدات» في عزها. أما «الصيداويون»، فكأنهم يعيشون خارج «المواسم الأسيرية». بائعو «البسطات» لا همّ لهم إلا المناداة على بضائعهم. حتى الإشكالات الفردية تقع في صيدا على أفضليّة المرور، وكأن شيئاً لم يكن، وتنتهي بـ«امسحها بذقني». أعلام «التنظيم الناصري» في كلّ مكان، وحتى صور الرئيس رفيق الحريري.. كلّ شيء طبيعي في العاصمة الجنوبية.
يكفيك أقل من كيلومترين حتى ينقلب المشهد رأساً على عقب. هنا عبرا.. أهلاً بكم في «دويلة الأسير»!
لا تتعدى حدود «دويلة الأسير» أكثر من مئتي متر مربع، تعلن بكل مظاهرها «استقلالها الذاتي» عن محيطها، أقلّه بالشكل.
وفي هذا «المربع الأمني» يقع «مسجد بلال بن رباح». مدخل شرقي للرجال، وغربي للنساء. في الجهة المقابلة، «مبنىً أمني» محمي بدشمة عسكرية، ومؤلف من أربعة طوابق. لا يمكن اجتياز مدخل المبنى ذي الزجاج الداكن «فوميه»، إلا بإذن من «حراس أمن الشيخ»، الذين هم على اتصال مباشر بمكتبه الإعلامي الذي يقع في الطبقة الأولى، وبمنزله في الطبقة الثانية.
في المبنى نفسه أيضاً، يتيح الأسير لأنصاره ممارسة هواية «الشوبينغ» بعد «التبارك منه» مباشرةً، من خلال متجر «زينتي»: «كلّ ما يحتاجه المسلم والمسلمة».
أما القاطنون في «الدويلة»، فهم أكثر من ثلاثمئة شاب يرخون لحاهم ويحفّون شواربهم. لا تستطيع التفريق بين من هو «أبو النور» الذي ينادي على «أبو البراء» عبر الجهاز اللاسلكي، وبين «ابو محمد» الذي يسارع إلى أخذ مكانه عند باب المسجد وبرفقته أطفاله الثلاثة. هنا، وكأنك في الصين، كلهم يشبهون بعضهم البعض، هؤلاء «توائم الأسير» في الشكل والمضمون؛ «سلفيون في سبيل الله».
وحده فضل شاكر، يمكن أن تفرّقه عن «إخوته في الإسلام». هو أيضاً من مرتدي «القمصان السود» الذين يتوزّعون يمنةً ويسرةً في المكان، غير أنه يمكن وصفه بأنه من ذوي «القمصان السود الكلاس». يقف «ستار السلفيين» على ناصية الطريق، يراقب عن كثب كلّ من يمرّ أمام المسجد، مرتدياً ثيابه الرياضية من ماركة «adidas»، آخر ما تبقى من «أيام ما قبل التوبة».
«جنود الأسير» ليسوا من الرجال فقط. «الأسيريات» أيضاً، «بايعنَ» إمام «مسجد بلال بن رباح»، للدفاع عن أعراضهنّ. داخل «مصلى النساء»، لا تكتفي المنقبات بالاستماع إلى خطب «الشيخ» والدعوات بعد الصلاة لـ«نصرة الرجال»، وإنما لهؤلاء أيضاً مكان في التظاهرات والاعتصامات، ولو بصمت، وأيضاً الهجوم على «حزب الله». يتبادلن أطراف الحديث، ويشرحن لبعضهن البعض بالتفصيل، كيف «احتلّ» الحزب شقق عبرا.
بالطبع، يصعب العثور على «مكشوفات الرأس» في المربع الأمني للأسير. ولكن، «تخترق» امرأة متبرجة وغير محجّبة صفوف «الأسيريات». هي لم تأت لمناصرة الجموع، وإنما هي «جارة الأسير»، فحسب.
إذاً، هناك في «دويلة الأسير» من هم من غير السلفيين، غير أن «القدر» حكم هؤلاء أن يكون «بابهم على باب» إمام «مسجد بلال بن رباح». يتباهى الأسير والمقربون منه بالغنى الطائفي الذي «يطوّق» المربّع الأمني، يقولون إن «المبنى الذي يقطن فيه الأسير تسكنه عائلات شيعية، وكذلك الأمر في المبنى الذي يقع فيه المسجد».
كلّ الجموع تنتظر «الشيخ»، حتى يطلّ لإلقاء خطبة الجمعة. وبانتظار الكلام، يعمد «رجال الشيخ» إلى تنظيم الصلاة. فللرجل «تنظيم حديدي» لا يخرج عن «القانون الأسيري»، وقاعدة شعبية تتحرّك بـ«إمرة القائد»، إذ كلما أراد الأسير أن يهدئ فورة مناصريه يقول لهم: «إذا كنتم تطيعونني، فافعلوا كذا..».
إلى جانب الطاعة، كلّ شيء منظّم في هذه «البقعة من الأرض» بفضل تحديد الهيكلية التنظيمية وأنشطتها. كلّ لديه عمل محدد هنا، فهؤلاء الشبان مكلفون بحماية الشيخ، وأولئك حماية «أصدقاء الأسير»، وآخرون للتنسيق مع الإعلام، وغيرهم لـ«حماية الحدود» تحسباً لأي طارئ، وإضافةً إلى هؤلاء من يراقب من فوق أسطح المباني ما يجري على الأرض.. وربما في السماء!
كـ«نسمة هواء»، يمرّ الأسير متنقلاً بين مسجده ومكتبه، لا أحد يشعر بذلك سوى «شباب القائد» الذين يتناقلون الخبر عبر وسيلة الاتصالات الرسمية في «دويلة الأسير»، أي أجهزة الاتصالات اللاسلكية. وليست الأجهزة وحدها ما ينقل الرسائل بين «أمنيي الأسير»، إذ ان لغة العيون بينهم عمليّة أيضاً، إضافةً إلى الهمس في حضرة أي غريب من «خارج حدود المسجد»، إذ يصعب عليك أن تفهم بما يتحدّث هؤلاء، جلّ ما تعرفه أنهم يعتمدون على «شيفرة» ما لفكّ الرسائل المتناقلة بينهم، والتي تخص الأمن «في المنطقة والجوار».
عند الساعة الثانية عشرة إلا عشر دقائق، اكتمل النصاب في المسجد. من لم يملك الحظ في اقتناص فرصة حجز مقعداً في الصفوف الأمامية إلى جانب الشيخ، افترش الأرض. المصلّون ملأوا المسجد والمكان المقابل له الذي وضع الشيخ فوقه سقفاً مستعاراً لحماية أنصاره من أشعة الشمس، وربما من عيون «حزب الله» المتربصة به.
بدأ الأسير خطبته، من حيث يشتهي أن يكون. فهو «أحمد الأسير الحسيني»، وبالتالي كان لا بدّ من السيرة الحسينية. يحاول الرجل التماهي مع الحسين، للتأكيد أن «أهل السنة مضطهدون»، وبالتالي لإطلاق «انتفاضة الكرامة» تحت شعار «هيهات منا الذلة».
يشعر بـ«عقدة النقص»، فـ«7 أيار» تتكرّر على لسانه أكثر من 10 مرات في الساعة الواحدة. يدرك «الشيخ» كيف «يفجّر مواهبه» الكلامية أمام الجمهور، فهو يخفض صوته عندما يلزم، وفجأة يهز بكلماته الجدران عندما يلفظ اسم السيد حسن نصرالله، وأكثر من ذلك، يقلّد صوتياً كلام الفاعليات الصيداوية التي تخاف من الفتنة بلجهةٍ مستهزئة، يصوّرها على أنها «خائفة»، تتكلّم بـ«لغة خشبية».
يحمل الأسير بشدة على مخابرات الجيش التي «تهين شبابنا وتنكّل بهم، وتحقّق معهم على خلفية طائفية ـ مذهبية»، نافياً أن تكون هذه حالات فردية، «فالذين قتلوا عناصري يسرحون ويمرحون على مرأى المخابرات».
يتكلّم الأسير عن كلّ ذلك، ليصل إلى أن «مخابرات الجيش والدولة بأكملها تحت سيطرة نفوذ «حزب الله» وإيران خلفها». وعلى مسمع من صيدا التي حاربت العدو الإسرائيلي، يسأل الشيخ السلفي: «ما الفارق بين إيران وإسرائيل؟»، ليعود ويجيب بنفسه إن «الاحتلال الإيراني كالاحتلال الإسرائيلي، غير أن إيران متحكمة بمفاصل الدولة اللبنانية»، إذاً هو «الاحتلال المقنّع»، بنظره.
يحاول الأسير، في خطبة الجمعة، أن يدغدغ مشاعر «الحريريين». يعزف على «الوتر الحساس»، إذ ان الرئيس سعد الحريري لم يعد «لأن لبنان محتلّ». ولكن هذا لا يعني أنه من محبيه، فـ«لديّ الكثير من الملاحظات على أداء «المستقبل». يؤكد أنه لم يتلق أي اتصال هاتفي من «المسؤولين الزرق»، فهو ينفض يديه سريعاً منهم.
من التجارة، إلى الإعلام، الأمن، السلاح.. يعبئ الأسير قاعدته، ثم يدعو إلى التظاهر عند «الشقق التي يحتلّها «حزب الله» في عبرا». غالبية المتظاهرين لا تعرف أين تقع هذه الشقق، ولكنها علمت للتوّ أنها في المبنى الذي يقفل الجيش اللبناني الطريق إليه، بملالاته.
يحقن الأسير أنصاره، ثم يدعوهم إلى «جولة في الأنحاء»، ويعود بهم إلى المسجد على بعد أمتار قليلة من الشقق، وهم يهتفون بكلمات منددة بنصرالله.
يعود «الأنصار» أدراجهم إلى المسجد، يتفرقون، غير أن تلك العبارات التي أطلقوها على مدى 10 دقائق لم تخرج غضبهم. يقول البعض إن هذا الغضب سيخرج يوماً ما، فهو «الفتنة بعينها». اليوم سيعيد الأسير السيناريو ذاته عند الساعة الرابعة والنصف.
ترى بركان صيدا قريب الانفجار؟
عن "السفير"
ليست هناك تعليقات:
Write commentsشكرا