بقلم بدرخان علي
مدخلٌ واحد لا يكفي لتحليل بيئة الانتفاضة وجمهورها. لا المدخل الطبقيّ-الاجتماعيّ كافٍ، حيث تُغيّب قيم أساسيّة وراء هذه الانتفاضة مثل طلب الحرية والكرامة والردّ على المهانة كذلك غياب أيّة احتجاجات في أوساط مهمّشة ويعوزها العيش الكريم وأبسط مقومات الحياة المعيشيّة، ولا المدخل الحقوقيّ-السياسيّ كافٍ بدوره حيث تهمل وقائع التهميش والحرمان الاجتماعيّ-الاقتصاديّ، وكما لم تفلح دعوات النشطاء والقوى المعارضة في المطالبة بالإصلاح السياسيّ الحقيقيّ أو التغيير الديمقراطيّ طيلة العقود الماضية لم تفلح في خلق حركة اجتجاجيّة برغم التضحيات النبيلة.و لا يغيب عن بالنا لحظة واحدة خوف الناس من بطش النظام اللامحدود كعامل أساسيّ في عدم تمدّد الانتفاضة واتّساعها. الحقيقة أن نسبة كبيرة من المواطنين السوريين المتردّدين و"الصامتين" يخافون من توحّش النظام بنفسه لا من سقوطه كما يشاع كثيراً. عامل آخر ثانويّ، لحدّ الآن وربّما يكون أكبر في الفترة المقبلة، هو تشتّت المعارضة والسلوكيات الخاطئة لبعض المعارضين والناطقين باسمها، كما انزلاق بعض المحتجّين إلى حمل السلاح كردّ على العنف الوحشيّ للنظام، وممارسات طائفيّة في بعض البؤر الحسّاسة.
المعارضة والانتفاضة مثل المجمتع السوريّ ومحيطه تعتمل فيها حساسيّات عديدة ليست كلّها ديمقراطيّة وبنّاءة للمستقبل. لكن الحلّ بكل الأحوال هو إسقاط النظام القائم بنية وسلوكيات، مع الحرص على مؤسّسات الدولة والممتلكات العامة وقطع الطريق على أيّ شكل من أشكال الطائفيّة ونزعات الانتقام الغرائزيّة ومماهاة السلطة الديكتاتوريّة الفاسدة بقطاعات سكانيّة واجتماعيّة بعينها. هذه مهام أساسيّة في المرحلة الانتقالية إلى جانب المباشرة ببناء منظومة جديدة سياسيّة وقانونيّة وأخلاقية تكفل للمواطنين جميعاً، بمن فيهم أنصار النظام الحالي، حقوقهم في دولة قانون ومؤسّسات وحريّات. المواطنة حقّ للجميع وليس هناك درجات لها في دولة عصريّة ديمقراطيّة كالتي نتطلّع عليها اليوم في سوريا.
سوف أتناول جانباً واحداً في مداخلتي هنا هو الحديث عن القضيّة أو المسألة الكرديّة.
جذور المسألة الكرديّة:
تلتقي في تشكيل مسألة كرديّة في بلد عربيّ كسورية العربيّة بغالبية سكانها وثقافتها وعمقها الجغرافيّ عوامل عديدة سابقة للانتفاضة الراهنة ، بل سابقة للنظام الحاكم منذ عام 1963. فقد ظلّت مناطق على الشريط الشماليّ الشرقيّ تعاني هذا الشقاق والقلق: بين انتماءها لشعبٍ كرديّ متمايز إثنيّاً عن العرب، لكن يشتركان في الكثير، وبين سوريّة كدولة حديثة عربيّة الهويّة تشكّلت بحدودها الراهنة جراء ترتيبات كولونياليّة غربيّة، حيث ضمّت مناطق ذات أغلبية سكانيّة كرديّة متمادية اجتماعيّاً وثقافيّاً ومعيشيّاً مع الجزء الكردستانيّ الكبير الذي ظلّ تحت سيطرة تركيا ، فيما كان من المقرّر، وفقاً لاتفاقية سيفر 1920، أن يجري استفتاء شعبيّ في المنطقة الكرديّة بعيد انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة لتقرير مصير كردستان الخاضعة لها، وكانت المناطق الكرديّة السورية اليوم ، محسوبة على كردستان العثمانيّة وبمثابة امتدادات وجيوب لها.
على هذا نشأت المسألة الكرديّة في المنطقة كنتيجة لـ"المسألة الشرقيّة" لكن أساساً بسبب وجود قومٍ كرديّ لا يرى نفسه أقلّ شأناً عن غيره من الأقوام الكبرى في المنطقة في تطلّعاته وتوقعه للتحرّر القوميّ، كما في كسوره المجتمعيّة وطبقاته المتباينة جهويّاً وعشائريا،ً وطائفيّاً بنسبة أقل.
ذلك للقول أنّ القضية الكردية في سوريا ذا تاريخ ومسار مختلف عن المشكلات الطائفيّة في المنطقة.القضية الكرديّة ليست قضية طائفيّة، والكرد ليسوا طائفة من العرب أو فرقة إسلاميّة. فهم ينتمون لشعب كرديّ يبلغ قوامه الـ 40 مليون نسمة يتوزّعون في بلدان عديدة وهم يشكّلون أكبر قوميّة في المنطقة، والعالم، محرومة من معادل سياسيّ لوجودها، أي دولتهم المستقلّة.
لكن القضيّة الكردية لم تتبلور في سوريا كمشكلة عامة للدولة والمجتمع السورييّن في أيّ وقت، كما في بلدان الجوار. بسبب طرفيّة المناطق الكرديّة وبعدها عن المدن الكبرى ، مراكز السياسة والصراع على السلطة. الأكراد المندمجون مع المجتمع السوريّ العام( في دمشق وحماه وحلب..) شاركوا بكثافة في السياسة وتبوؤا مناصب عليا في الجيش والسلطة لكن بصفتهم سوريين وحسب وكان ذلك قبل استيلاء البعث على السلطة. ومن جهة أخرى تحصّلت المشاعر القوميّة الكرديّة التي اندلعت في فترة الحماس القوميّ على قنوات أخرى لتصريفها، هي التفاعل الرمزيّ والسياسيّ مع الحراك السياسيّ والنضاليّ لأكراد العراق وتركيا. كان المجتمع الكرديّ السوريّ مضطرب الهوية والانتماء؛ مشدوداً إلى مراكزه القوميّة ومدنها التاريخيّة خارج الحدود السوريّة الجديدة.
لم تكن مشكلة عامة لكنّ قضيّة الكرد وهويّتهم كانت حاضرة بقوة في أذهان الكرد وبذلك بقيت المشاعر القوميّة ملتهبة في حدودها. زادت من حدّتها السياسات القوميّة والاستبداديّة التي بوشرت منذ قيام الوحدة السوريّة - المصريّة عام 1958، برغم الموقف الشخصيّ المنفتح المعروف للراحل جمال عبدالناصر، ملهم القومييّن العربييّن آنذاك، من القضية الكرديّة. سيما في العراق( يعيد بعضهم هذا الموقف إلى صراع عبد الناصر مع حكّام العراق ، والصراع بين القاهرة وبغداد على النفوذ الإقليميّ).
وكلّما زاد القمع السلطويّ وحرمان المجتمع من السياسة والحريّات كان نصيب الأكراد مضاعفاً إلاّ في حدود السياسات المراوغة للأنظمة. ساهم كذلك عوامل أخرى في تحييد الأكراد نسبياً من الحراك العام لفترة، هو علاقة نظام حافظ الأسد بالحزبين الكرديين الرئيسيين في العراق، و حزب العمال الكردستاني( تركيا)، ما شكّل مفارقة حقيقيّة: حرمان أكراد سورية من أبسط حقوقهم( كالحرمان من الجنسيّة والحجر على لغتهم وثقافتهم) ودعم حركات كرديّة خارج سورية. وكذلك تهميش القوى السياسية السوريّة لقضايا الأكراد وخصوصيتهم ومطالبهم. وغياب المجال السياسيّ وتغييب الحريات الديمقراطيّة في البلاد.
نشأت الحركة السياسيّة الكرديّة المنظّمة في صيف عام 1957 كتراكم للنشاط القوميّ الثقافي والاجتماعيّ والسياسي الممتدّ من بدايات القرن على وقع الثورات المندلعة في كردستان إبّان النضال من أجل الاستقلال عن العثمانييّن و ضد الفاشيّة الأتاتوركيّة فيما بعد في تركيا، وكفاح أكراد العراق وإيران من أجل الحكم الذاتيّ.
بيد أن الحركة تلك حدّدت أهدافها منذ البداية في تأمين الحقوق الكرديّة في سوريا ضمن إطار سورية ديمقراطيّة ووحدة أراضيها. لم تنشأ أيّة دعوة استقلاليّة كرديّة عن سوريا حتّى اليوم. وهذا ما أضفى الطابع السلميّ على الحراك الكرديّ السوريّ وعدم وجود صدامات داميّة-استثناءات قليلة جداً- مع السلطة المركزيّة، كما للعلاقات الاجتماعيّة الحسنة عموماً مع باقي مكونات المجتمع السوريّ، ما يتيح إمكان سهولة حلّ المشاكل الكرديّة العالقة.
انخرطت الحركة الكرديّة في الحراك الوطنيّ العام والنضال الديمقراطيّ بشكل متزايد، سيما في العقد الفائت. وقد كان للحركة الاحتجاجيّة الكرديّة السلميّة في آذار 2004 أن تنبّه السلطة والمجتمع والقوى السياسيّة إلى عمق الاحتقان الكرديّ المتراكم جرّاء السياسات التمييزيّة المتواصلة. ويجوز اليوم أن نعتبر انتفاضة الكرد عام 2004 العفويّة والسلميّة تماماً( والمشروعة) إحدى التمرينات الشاقّة المكلفة على مناهضة نظام الاستبداد في سوريا خلال العقود الأخيرة، وقد راح ضحية عنف السلطة آنذاك ما يزيد عن 30 شهيداً خلال بضعة أيام وآلاف السجناء وقصص تعذيب مهولة تشابه تلك التي نسمعها ونراها اليوم. ويجوز القول كذلك أنها كانت انتفاضة مبكّرة وغير ناضجة الشروط الذاتيّة والموضوعيّة كي تتحوّل إلى انتفاضة سوريّة عامة، وذلك بسبب طابعها القوميّ أساساً، واندلاعها على خلفية مغايرة للربيع العربيّ الحالي، بل على خلفيّة أحداث العراق بعد الاحتلال الأميركيّ، الأمر الذي أثار مشاعر عربيّة وكرديّة متناقضة ومتضادّة.
وقد ساهم ذاك الانخراط وتوجيه الحركة السياسيّة الكرديّة نضالها صوب دمشق في تشكيل رأي عام كرديّ يتجّه بصورة متزايدة نحو ربط النضال من أجل الحقوق الكرديّة بقضية الديمقراطيّة والحريّات العامّة ونشر ثقافة حقوق الإنسان في عموم البلاد. بدل التماهي مع حالات كرديّة خارج سورية. واليوم نشاهد الحراك الشبابي الكرديّ في الانتفاضة السوريّة يجسّد هذا التوجّه عفويّاً ولو بغير توجيه من الأحزاب التي ساهمت في هذا المناخ قبل الانتفاضة. كما كان للانتفاضة بحدّ ذاتها أن تخلق هذا المجال الوطنيّ العام من خلال الإصرار على شعارات الكرامة والحريّة، الممنوعتين على المجتمع السوريّ بأسره.
الحراك الكرديّ في الانتفاضة:
فيما خصّ الشأن الكرديّ في الانتفاضة الراهنة من المفيد تسجيل الملاحظات والوقائع التالية من خلال متابعة الحراك الجاري والنقاشات والسجالات البينيّة الكرديّة :
1- هناك احتجاجات كرديّة متواصلة منذ بداية الحراك الاحتجاجيّ في مدينتي قامشلي وعامودا خصوصاً ترفع فيها كافة شعارات الانتفاضة السوريّة العامّة، تضاف إليها شعارات وهتافات متعلّقة بالخصوصيّة الكرديّة. وسبقت المدن الكبرى (حلب ودمشق) وخصوصاً حماه التي لم تنتفض إلاّ بعد مرور أكثر من شهر، وهي المدينة المعروفة تاريخيّاً بمناهضتها للحكم الحالي والتي راح في المواجهات بينها وبين النظام عشرات الآلاف من القتلى والسجناء خلال أزمة الثمانينات الدامية. وسبقت المناطق الكرديّة مناطق عديدة في البلاد لم تحتجّ تقريباً حتى اليوم(الرقّة-السويداء-طرطوس....) .
2- هناك تيار كرديّ واسع، يمثّله غالبية القيادات السياسيّة الحزبيّة، يتجنّب التصادم والتصعيد في مواجهة النظام الحاكم، تحاشياً للنتائج الوخيمة المحتملة على الوضع الكرديّ الحسّاس من جراء بطش النظام وإمكانيته التلاعب على الحساسيات الأهليّة في منطقة الجزيرة السوريّة بشكل خاص، حيث المكونات الأخرى تنظر بريبة شديدة إلى أيّ حراك كرديّ، وخضوع معظمهم لهيمنة أجهزة السلطة واستفادتهم الواقعيّة من تهميش الأكراد في المجالات الوظيفيّة والإداريّة. وعلى عكس ما يشاع أحياناً فإن هذا الحذر السياسيّ المفرط يلقى تجاوباً وتفهّماً في الوسط الكرديّ عموماً،أحزاباً وأفراداً.
لكن الأحزاب الكرديّة التي طرحت مجتمعة مبادرة معقولة لأزمة البلاد في بداية الانتفاضة ولم تعمل لها بما فيه الكفاية إعلاميّاً وسياسيّاً ولم تلقى اهتماماً من قبل القوى الأخرى وتجاهلها النظام بالطبع، تآلفت مؤخّراً معظمها في إطار" المؤتمر الوطني الكرديّ" وتبنّت الحراك الشبابي الكرديّ وأهداف الانتفاضة السوريّة في الحرية والكرامة والإصرار على سلميّة الثورة ونال المؤتمر التفافاً جماهيرياً كبيراً، ارتكبت الأحزاب خطأ في طرح شعار كبير ومناقض لنفسه" حق تقرير مصير الشعب الكرديّ في سوريا في إطار وحدة البلاد" وكلام غير مقنع عن شيء شبيه بالفيدراليّة، هو اللامركزيّة السياسيّة. وهذان شيئان يصعب إقناع الغالبية العظمى من السوريين بهما. الغريب حقّاً أن برامج عموم الأحزاب تخل من هذه المطالب، إلاّ في الكلام العام عن حقّ الكرد المبدئيّ كشعب في المنطقة بالحصول على حقوقه القوميّة أسوة بباقي شعوب المعمورة، وهذا شيء عادل من الناحية التاريخيّة. ومن الأحزاب المشاركة نفسها من انتقد مراراً استيراد شعارات وبرامج كرديّة من العراق أو تركيا أو إيران وظلّت تنادي بخصوصيّة القضية الكرديّة في سوريا واختلاف معطياتها عن باقي البلدان. وكان من الأجدى لو تبنّى المؤتمر الكرديّ تلك الصيغة المنطقيّة والواقعيّة التي طرحتها غالبية الأحزاب الكرديّة في وثيقة لها صدرت بعنوان "رؤية مشتركة للحل الديمقراطي للقضية الكردية في سوريا، 2006" جاء فيها مثلاً: ( إعادة النظر في التقسيمات الإدارية في المناطق الكردية، وتطوير الإدارة المحلية فيها بما يتلاءم مع خصوصيتها القومية) بالإضافة إلى الاعتراف الدستوريّ بالقوميّة الكرديّة في البلاد والمطالب الأخرى المعروفة، بدل الحديث عن حقّ تقرير المصير واللامركزيّة السياسيّة.
3-هناك لوم وعتاب كرديّ على مواطنيهم العرب في محنتهم الطويلة مع هذا النظام. لا سيما حرمانهم المديد من الجنسية والاعتراف بلغتهم في أبسط الأحوال. أما حديثاً فمازالت الطريقة التي تعاملت بها بعض عشائر عرب الجزيرة تحديداً، مع محنتهم الدامية مع النظام إبّان هبتهم السلمية آذار 2004، ماتزال تردّد هنا وهناك.
4-ليس بين الكرد اليوم، سياسيين ونشطاء ومثقّفين، من هو إلى جانب النظام أو في وارد تبرير سياساته القمعيّة والاستئصاليّة. ومن الفعاليات السياسيّة والشبابيّة الكرديّة من يشارك في أطر المعارضة السوريّة المعروفة.
5-السلطة نفسها تتجنّب إثارة الغضب الكرديّ إلى حدّ بعيد، وتتعامل مع الكرد واحتجاجاتهم بإهمال ملحوظ لكون الأكراد كتلة متجانسة( حوالي 13% من عدد السكّان) يمكن أن يرفدوا الحراك العام بدفعة قويّة وحاسمة، سيما في مدينتي دمشق وحلب.
6-الجزيرة السوريّة تعيش منذ بداية الانتفاضة حركة عمرانيّة غير مسبوقة، وفي بناء المخالفات خصوصاً بعد تحريم البناء قانونياً لعدّة سنوات بموجب مرسوم يحظر البناء في المناطق الحدوديّة إلا بشروط تعجيزيّة منها موافقة الأجهزة الأمنيّة المحليّة ووزارات في دمشق. هذه الحركة امتصّت جمهوراً محتملاً لحراك جماهيري احتجاجيّ. والكثير من الأسر التي هجرت الجزيرة إلى دمشق وضواحيها بحثاً عن لقمة عيش(غير كريمة على أيّة حال) عادت إلى موطنها بعد توفّر فرص العمل في البناء وتحريك الحياة قليلاً في الجزيرة. وكذلك ساهم في ذلك منح الجنسية لعدد كبير من المجرّدين منها، رغم رفض الحراك الكرديّ الاحتجاجيّ مقايضة الجنسيّة بالحريّة والكرامة.
7- في جامعتي دمشق وحلب كان الطلبة الكرد المحرك الأساسيّ في الاحتجاجات التي حصلت رغم ندرتها وتواضعها، وقد قمعتها السلطة بوحشيّة فظيعة.
8-حصيلة هذا الحذر الكرديّ، وغضّ نظر السلطات النسبيّ هو ما يعتبره بعض المراقبين تفاهماً بين السلطات والنخب الكرديّة، وهو ليس كذلك على أيّة حال. والأمر مفسّر؛ فبالإضافة لما ذكرناه هناك الطابع الطّرفيّ للاحتجاجات الكرديّة( أقصى شمال شرق البلاد بعيداً عن العاصمة)، غير المؤثّر بنحوٍ فعّال على السلطة ومراكزها. ونضيف هنا كيف تعاملت السلطات مع احتجاجات حي الأكراد( ركن الدين) في دمشق(الحي الكرديّ التاريخيّ في دمشق) ببطشٍ معهود، حيث سقط قتلى وجرحى أكراد.
إلا أن بعض الأصوات السورية غير المسؤولة التي تطالب الأكراد كي يكونوا رأس حربة في الانتفاضة، وهم لا يستطيعون أن يكونوا ذلك لجملة عوامل موضوعيّة وذاتيّة تطرّقت إليها هذه الورقة، وإلاّ سوف يحرمون في المستقبل من حقوقهم، فهي لا تنمّ بالضرورة على الحرص على إنجاح الانتفاضة واجتراح مستقبل ديمقراطيّ حقيقيّ لكلّ السورييّن.
9-أريد التنويه هنا كذلك إلى خطل مقولة مفادها أن مستقبل الأكراد في البلاد يتعلّق بحجم تضحياتهم في هذه الانتفاضة. بدل أن يجري الحديث عن ضرورة ما يدعى بـ "التمييز الإيجابيّ" لصالح المناطق والفئات الأكثر تهميشاً طوال العقود الماضية. لا ندري إلى أيّ أساس ديمقراطيّ تستند هذه "النظريّة". وهي تضمر شيئاً خفياً ليس فيه أية محبّة بعيون الأكراد، كما ينبغي القول. على أساس هذه "النظريّة" ينبغي حذف مدينة حلب بملايينها الخمسة من خريطة سورية المستقبليّة، لأنها لا تحتجّ بعد مرور تسعة شهور على الانتفاضة ،كما يجب حذف أنصار النظام الحالي وهم فئة غير قليلة من المواطنين السورييّن، من كلّ طوائف المجتمع السوريّ، من لائحة المواطنية السوريّة مستقبلاً. أقل ما يقال في هذه المقولة أنها غير وطنيّة وغير عقلانيّة وغير سياسيّة.
سورية مُدينة لأكرادها الذين لم يسيئوا لبلدهم ومواطنيهم يوماً ما، رغم التهميش والإقصاء المديدَيْن، وساهموا بفعاليّة معروفة في استقلال سوريّة عن الاحتلال الفرنسيّ، وفي بناء الدولة الوطنيّة ( قبل عهود الإقصاء) ولم يتخذّوا مواقع طائفيّة أو عنصرية قوميّة ، ولم يرموا بوردة واحدة على شرطيّ واحد ولا بحجرة صغيرة على عنصر مخابرات واحد، ولا بالطبع على مواطن عربيّ واحد، بمن فيهم من وطّنتهم السلطات في مناطقهم بعد نزع ملكية الأراضي الزراعيّة الجيّدة من فلاّحيها ومالكيها الأصلييّن الكرد ومنحها لمواطنين عرب استقدموا من خارج المحافظة( الرقّة وحلب).
المسألة الكرديّة عادلة ومحقّة قبل اندلاع الانتفاضة الشعبيّة بكثير وبعدها.
- بقيت الإشارة إلى نقطة هامة وأخيرة: باعتبار الهويّة القوميّة بطابعها الديمقراطيّ الإنسانيّ هي الغالبة عند الجمهور الكرديّ وغياب تيارات دينيّة أو مذهبيّة في الوسط الكرديّ والتسييس العالي في هذا الوسط، والاعتدال السياسيّ للحركة الكرديّة، نرجّح أن الكتلة المجتمعيّة الكرديّة ستكون شريكاً قويّاً في الحفاظ على علمانيّة ومدنيّة الدولة السوريّة المنشودة في وجه تيارات أصوليّة محتملة و ضدّ العصبيّات الطائفيّة المهدّدة . القول هذا لا يستند على فرضيّات جوهرانيّة تزعم تطوّراً كرديّاً عن مواطنيهم العرب أو امتلاكهم لحداثة موهومة دون غيرهم، ولا استعلاءً قوميّاً، إنّما بالضبط بسبب العوامل التي ذكرتها للتوّ، وفي الشروط الراهنة تحديداً، أي احتداد الهويّة القوميّة.
نتمنّى أن تكون الشعارات التي يرفعها المحتجّون السوريّون، آزادي بالكردية والحريّة بالعربيّة جنباً إلى جنب، وما يردّده الشباب في مدينة حمص الأبيّة من شعارات التآخي الوطنيّ وفق تهجأة جميلة بلغة كرديّة مكسّرة يجهلونها، وأن ينادي السوريّون في سائر ساحات البلاد ، وحتّى الجولان المحتلّ، باسم الشهيد الكرديّ مشعل التمّو، وما يردده الشباب الكرديّ من شعارات وهتافات حسّاسة للهمّ العام ونصرة حماه ودرعا وأدلب وحمص، نتمنّى أن يكون كلّ ذلك منطلقاً لرسم سياسة مستقبليّة حكيمة وديمقراطيّة وجامعة للسورييّن كلّهم، وهذا تحدّ سياسيّ وثقافيّ كبير ينتظر النخبة السوريّة القادمة بعد رحيل النظام، الغارق في دماء السوريين كلّهم و الذي هو العقبة الكبرى في طريق تطوير وطنيّة سوريّة ديمقراطيّة ودولة قانون وعدالة اجتماعيّة.
ليست هناك تعليقات:
Write commentsشكرا