حسن شقراني
ما المشترك بين الهند، الصين، اليابان، كوريا الجنوبية وتركيا؟ ببساطة: النفط الإيراني. فهذه البلدان الخمسة هي الوحيدة التي تستورد الوقود الأحفوري من إيران بسبب العقوبات التي فرضها الغرب، لكن اليوم يبدو أن النفط الإيراني يسيل تدريجاً في السوق الشرعية. العقبة الرسمية الوحيدة أمامه هي السعودية، في إطار صراع واضح المعالم على المستوى الإقليمي وداخل «أوبك».
يقول مايك موريس، المرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية في فيلم The Ides of March: «لا تدفنوا رؤوسكم في رمال السعودية والعراق، فلنطلق السيارات التي تعمل على الهيدروجين، ولنحقّق السلام العالمي».
يقول مايك موريس، المرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية في فيلم The Ides of March: «لا تدفنوا رؤوسكم في رمال السعودية والعراق، فلنطلق السيارات التي تعمل على الهيدروجين، ولنحقّق السلام العالمي».
قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية، ولفترة امتدّت طويلاً طبقاً لمعايير الدبلوماسية الدولية، ساد اعتقاد بدا راسخاً في أوساط الخبراء بأن واشنطن لن تسمح بعودة طهران إلى السوق النفطية؛ على الأقل ليس في المدى المنظور.
اليوم تنقل بعض التقارير والنشرات الخاصة بالخبراء في الدوائر الضيقة، أنّ إيران، التي تُعدّ أحد المنتجين الخمسة الكبار للنفط، مستعدة لتأمين إنتاجها في السوق العالمية بأسعار منخفضة إذا جرى تخفيف العقوبات الغربية المفروضة عليها.
المعلومات من طهران تُفيد بأنّ «المحادثات غير الرسمية مع البلدان المهتمة والتجار النفطيين تتطوّر إيجاباً على نحو سريع»، وبأن «الأجواء تُفيد بتفاؤل كبير»، وفقاً لما نقلته أخيراً الشركة البريطانية المختصة بقطاع النفط، Oil & Energy Insider، عن مصادرها الإيرانية.
عودة اللاعب البارز
يقوم التحليل على انطلاق الحوار الفعلي بين الجانبين الأميركي والإيراني (وجرى تظهيره علناً عبر الاتصال الشهير في نيويورك بين الرئيس باراك أوباما، ونظيره حسن روحاني) وعلى واقع أن الأزمة السورية التي تتجه صوب تسوية قريبة تقوم على الأهداف المشتركة لإيران، روسيا والولايات المتّحدة، تمثّل مدخلاً لعودة أحد أبرز اللاعبين النفطيين إلى السوق العالمية.
يفسّر أصحاب هذه النظرية تحليلهم بالإشارة إلى أنّ البرنامج النووي الإيراني لطالما كان واجهةً يُعرض عليها الغسيل بعد معالجته في الغرف الخلفيّة، حيث تُعد السياسات الفعلية ويقاتل كل طرف حفاظاً على مواقع استراتيجية أو طلباً لأرباح جديدة.
انطلاقاً من هذه المعطيات تبقى العقدة الأساسية في معادلة العودة الرسمية الشرعية لإيران إلى سوق النفط مرتبطة بموقف الغريم الأول إقليمياً، السعودية.
يُمكن مقاربة هذا الموقف عند مستويين. الأوّل يُلحظ في منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) التي تقودها السعودية، لكونها المنتج الأكبر والأقوى فيها. فأيّ إنتاج نفطي شرعي لإيران يدخل السوق العالمية يجب أن يمر عبر هذه المنظمة لقياس الكوتا وضمان المعايير المحددة. ولكن أن تعود إيران إلى السوق يعني زيادة في المعروض، وبالتالي تراجعاً في السعر.
مصائب إيران
اليوم تتمتع السعودية بهوامش ربحية عالية في سوق تُسجل أسعاراً صامدة عند مستويات مرتفعة. فإنتاج المملكة اليوم يفوق عشرة ملايين برميل يومياً، أي ثلث إنتاج منظمة أوبك بمجملها. والإيرادات من صادرات هذا النفط السخي تُستخدم لتمويل المشاريع الاستثمارية الهائلة التي جرى تطوير رؤيتها خلال السنوات القليلة الماضية ويُعتمد عليها للحفاظ على توازن اجتماعي – اقتصادي عند الحدود التي يريدها الحكم. لذا فإنّ استعداد إيران لتصريف الإنتاج خارج «أوبك» بأسعار منخفضة، أو العودة رسمياً إلى السوق سيؤثّر لا محالة على خطط الرياض الاقتصادية والسياسية في آن واحد، لكون مصائب ايران كانت عند السعودية فوائد.
أما المستوى الثاني لمقاربة موقف المملكة، فهو العلاقات السعودية الأميركية، التي لطالما كانت الركن الأساسي لتأمين ذلك التوازن المنشود في السوق. مثلاً، عندما وصل سعر برميل النفط إلى 150 دولاراً عام 2008، دفعت تلك العلاقات الرياض إلى زيادة إنتاجها وإغراق السوق بالمعروض خلافاً لما تُحتّمه مصالحها. وأخيراً عندما تصاعدت العقوبات المفروضة على إيران (حيث لم تعد طهران قادرة على تصريف إنتاجها إلا خلسة وبعيداً عن أعين المراقبين) كانت السعودية الطرف الذي اعتمدت عليه أميركا والغرب عموماً لتعويض النقص المسجّل في السوق.
في الحقيقة تحولت المملكة خلال الشهرين الماضيين إلى ما يُمكن وصفه بأنه «غريم مشترك» للجانبين الإيراني والأميركي. في حالة الأول لا داعي إلى الشرح المطوّّل: البلدان لديهما أهداف متضاربة من لبنان إلى ساحل باكستان مروراً بخليج عدن. أما في حالة الجانب الأميركي، فتكفي تعليقات مدير الاستخبارات السعودية، بندر بن سلطان، (التي نقلتها الصحافية إيلين نيكماير على لسان الدبلوماسيين الغربيين) وتُفيد بأنّ الحلف التاريخي بين الرياض وواشنطن يتصدع على خلفية الصراع القائم في سوريا.
جاءت تلك التصريحات الصادمة بعد موقف أكثر جذرية عبّرت عنه الدبلوماسية السعودية، وقضى برفض المملكة مقعداً في مجلس الأمن. بحسب تحليلات خبراء الدبلوماسية والعلاقات الدولية التي تكثّفت حول هذه المسألة خلال الفترة الأخيرة، كان من الأفضل للجانب السعودي أن يقبل المقعد ويُقدّم مقاربته الخاصة بكيفية إدارة الصراع في سوريا (أو حسمه) والبناء على ردود الفعل الأميركية والروسية على المشاريع المطروحة لاتخاذ الإجراءات التي تُحرج جميع الأطراف، التي لا تريد حسماً لا يكون لمصلحة النظام في دمشق.
هناك إشارات تُرصد على المستوى التطبيقي المباشر تبلورت خلال الأسبوع الماضي عن التباعد الأميركي السعودي. فقد عمد بندر بن سلطان نفسه (وهو اليوم مُصنّف على أنه محرك السياسة الخارجية السعودية) إلى بيع المنزل الذي يملكه في آسبن في ولاية كولورادو الأميركية، بقيمة 36.5 مليون دولار، ليكون بالتالي قد صفّى نصف العقارات الستة التي يملكها في منطقة المنتجعات الخلابة، والتي كانت تُشكّل «مجمعاً كان يؤمّن فيه الأمير الترفيه للزوار، ومن بينهم الرؤساء الأميركيين»، وفقاً لما نقلته صحيفة «وول ستريت جورنال».
اللافت في عملية البيع الأخيرة هو تعليق المحامي الذي يتولّى الإشراف على أعمال بندر في تلك المنطقة الأميركية، وليام جوردن: «لقد صُدمت بنيّته بيع هذا العقار».
تعاظم الشرخ
الشرخ يتعاظم ويهشّم علاقة قامت في الأساس على خلق توازن في سوق النفط، الذي بقيت الولايات المتّحدة المستهلك الأول له قبل أن تتخطاها الصين أخيراً، لكن هل الإدارة الأميركية غبية إلى هذه الدرجة؟ لقد عملت أميركا عقوداً طويلة على ضمان الإمدادات النفطية السعوديّة (رغم تحفظ تيارات كثيرة فيها على الارتهان للوهابية) فهل يؤدي الخلاف على سوريا فعلاً إلى تهديد الديناميات القائمة في سوق النفط، وبالتالي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بما لا يُمكن بلدان الغرب تحمّله؟
في الواقع هناك معطيات كثيرة واضحة حالياً تُحدّد المواقف الأميركية في سوق النفط. فالخبر الأهمّ في هذا القطاع حالياً هو أنّ الولايات المتّحدة، معتمدةً على تقنيات الحفر الحديثة للوصول إلى النفط الصعب، هي على طريق العظمة النفطية الفعلية، إذ ستُصبح المنتج الأولى للنفط الخام بحلول عام 2020، متخطية السعودية. وتدريجاً ستبدأ بتلمّس خيرات الاستثمارات الفعالة في توفير الطاقة تحديداً في مجال المواصلات؛ هكذا ستُصبح مصدّراً صافياً للنفط بحلول عام 2030.
تصف وكالة الطاقة الدولية هذا التغير في تقريرها الأخير كالتالي: «إنّ خارطة الطاقة الدولية تتغيّر على نحو قد يكون له تداعيات كبيرة على أسواق الطاقة وتجارتها». حالياً، تتوقع أنّه بعد تخطي إنتاج النفط الأميركي عتبة العشرة ملايين برميل يومياً خلال الفصلين الماضيين (وهو الأعلى خلال عقود) فإنّ «الولايات المتّحدة تتجه لتصبح المنتج الأول للسوائل النفطية خارج منظمة «أوبك» متخطية روسيا بحلول الفصل الثاني من عام 2014».
لكلّ هذه المعطيات انعكاسات على علاقة الولايات المتّحدة بالشرق الأوسط والحلفاء التقليديين فيه. السؤال هو: هل تتحوّل الولايات المتّحدة صوب الحلفاء غير التقليديين؟
لا شكّ أن إدارة الرئيس باراك أوباما أظهرت تحوّلاً نسبياً في كيفية مقاربة مصالحها الدولية: بدءاً من الضغط على زرّ «إعادة الضبط» (Reset) مع الإدارة الروسية بعد مرحلة عاصفة من التهديد والوعيد أيام جورج بوش الابن وصولاً إلى إبداء الاستعداد للحوار مع إيران.
اليوم، مضى أكثر من عامين ونصف عام على الأزمة في سوريا من دون سعي أي من الأطراف المتنازعة (تحديداً الطرف الغربي في الحلف الذي يحارب النظام السوري) لحسم نهائي، بل على العكس تماماً يبدو أنّ التقاء الأضداد عند مصالح مشتركة هو ما سيُحدّد مصير المنطقة في المدى المتوسط. ولم يعد خافياً على المستوى الاستراتيجي أن جانباً مهماً من الحرب الدائرة في سوريا يتعلق مباشرة بحسم من يسيطر على بلاد الشام، وبالتالي يتمتّع بالأفضلية في التنافس على مد أنابيب الغاز من الخليج العربي، وتحديداً من حقل جنوب فارس الذي تشترك فيه إيران وقطر، صوب شرق المتوسط ومن ثمّ إلى تركيا وأوروبا.
وتتعقّد الصورة لدى إدخال المعطيات اللبنانية والقبرصية والإسرائيلية في المعادلة، حيث تؤدّي إمكانات تصدير الكميات الوفيرة التي اكتُشفت في هذه البلدان الثلاثة خلال العقد الماضي إلى التشويش على مخططات أخرى؛ وربما ما نشهده في لبنان متعلّق بتلك الحسابات، فضلاً عن تأثيرات سياسات النظام الطائفي.
الفكرة التي يُمكن التأمّل فيها اليوم، والتي يبدو أنها تتحقّق تدريجاً، هي أنّ عودة النفط الإيراني للتدفّق إلى السوق في إطار اتفاقية لتخفيف حدّة العقوبات المفروضة على طهران (وإن كانت ضمنية وليست علنية بمعنى أن البلدان التي تستورد هذا النفط لن «تُعاقب») هو مؤشّر أساسي على أنّ الحوار الأميركي الإيراني قد يُمهّد لمرحلة أكثر عمقاً من التفاهمات الشرق أوسطية انطلاقاً من معارك الطاقة، النفطية منها تحديداً.
ويبدو أن سياسة الرئيس أوباما، تسير في هذا الاتجاه، وللمفارقة، ظهرت الخطوط العريضة لتلك السياسة في هوليوود أخيراً عبر الفيلم السياسي المشوق، The Ides of March، الذي يتطرق فيه المخرج، الكاتب والممثل جورج كلوني، إلى رحلة المرشح الديموقراطي إلى الرئاسة في الولايات المتّحدة، مايك موريس، والوعود التي تلامس حساسية الاستقلال عن الشرق الأوسط والانعتاق من التبعية له بناءً على شعارات التغيير في محاكاة شبه مطابقة لرحلة باراك أوباما إلى البيت الأبيض.
_________
ليست هناك تعليقات:
Write commentsشكرا