بقلم الدكتور محمد الحدّاد
ثورات الحرية في العالم العربي تؤدي حتما إلى الانهيار النهائي لما دعي بأنظمة ”الأمنقراطية“، وهي نموذج من الأنظمة خلفت الأنظمة الأيديولوجية التي قامت في منتصف القرن العشرين. ذلك أن التاريخ السياسي المعاصر للعالم العربي يسجل ظهور موجتين ثوريتين، الأولى قامت ضدّ الاحتلال الأجنبي وحملت مشاريع أيديولوجية كبرى، من نوع التحديث (بورقيبة) أو الاشتراكية والوحدة العربية( عبد الناصر و"البعث") أو تعبئة طاقات الأمة لتحرير فلسطين، إلخ. وقد انهارت هذه الوعود الثورية مع نهاية الستينات من القرن الماضي وخفت بريق الزعامات التي قادتها، وخلفتها أنظمة ظلت تستهلك الرصيد الأصلي لكنها قامت أساسا على مبدأ أمني وأقنعت الداخل والخارج أن شرعية وجودها لا ترتبط بما ستحقّقه في المستقبل من وعود وإنما ترتبط بأنها إذا انهارت فإنها ستخلف وراءها الخراب، وعلى هذا الأساس فقد استطاعت أن تحكم طويلا مستفيدة من وهم أنها الأنظمة الأقل سوءا بالنظر إلى مجتمعات يزعم أنها غير مهيأة للديمقراطية. وكان طبيعيا أيضا أن تصبح مقولة ”الثورة“ ذاتها مقولة مريبة لدى الشعوب لأنها تذكرهم بالوعود السخية التي قطعت سابقا وانتهكت بعد أن ضحّت هده الشعوب بالغالي والنفيس لتحقيقها، وهكذا نشأت أسطورة” الاستثناء العربي“، أي وجود مجتمعات تقبل بأن تقايض حريتها بالأمن والحد الأدنى من وسائل العيش، عكس ما اتجه إليه العالم مع سقوط حائط برلين، فقد كانت شعوب المعسكر الشيوعي تنعم بقدر من الأمن ورغد العيش يفوق المتوفر في المجتمعات العربية، لكنها انتفضت مطالبة بما هو أهمّ من ذلك أي الحرّية والكرامة اللتين تمثلان جوهر الإنسانية.
هنا تتنزّل الموجة الثورية الثانية التي نعايشها حاليا، فقد قامت ضدّ هذا الشكل "الأمنقراطي" وتجاسرت على أن تضع أمنها في خطر على أن تواصل الخضوع لحياة رتيبة بائسة اختفت منها الأحلام الجميلة للعهد الثوري ولم تعوّضها، لدى جزء كبير من الشعب، ظروف دنيا من العيش الكريم. على هذا الأساس يمكن القول أن الأمنقراطية نظاما في الحكم والواقعية نظاما في التفكير قد سقطا مع الثورات الحالية، لكن ذلك لا يعني أن ”الاستثناء العربي“ سيسقط حتما، فالعالم العربي سيعيش مخاضا قاسيا وطويلا قبل أن يحسم نهائيا اختيارته في هذه القضية ويبيّن هل هو قادر على أن يمضي إلى النهاية بمشروع الحرّية أم أنه سيرتمي مجدّدا في أيديولوجيا أخرى ليعيد الدورة من جديد، ويستعيد الشعارات البراقة التي ستنتهي به إلى الخيبة بعد حين.
الأحزاب ”الإخوانية“ التي انتصرت في الانتخابات هي أيضا أحزاب أيديولوجية، وخطاباتها تترجم شعارات أيديولوجية بمقولات دينية، فقد استبدلت الاشتراكية بالعدالة الاجتماعية والوحدة العربية بالخلافة والديمقراطية بالشورى والبرلمان بأهل الحل والعقد وهلم جدّا. فإذا عملت هذه الأحزاب على منوال أيديولوجي بحت فإنها لن تحقق أكثر مما حققته الأيديولوجيات السابقة، أي أنها ستطرح الشعارات البراقة وستفشل في تحقيقها لاحقا، وتضطر أن تلهي الجماهير بالمجادلات الدينية لتنسيها مطالب الحرية والكرامة التي قامت على أساسها الثورات، ولنا في الجمهورية الإسلامية بالسودان أفضل مثال على ذلك، وهو مثال يتعامل معه "الإخوانيون" بالتجاهل ويخفون على الجماهير كم هللوا له ورحبوا عند بداياته.
لكن يمكن أن نتوقع أيضا من هذه الأحزاب أن تستفيد من الماضي وتقلص جنوحها إلى الشعارات الأيديولوجية وتعمل على إنهاء ”الاستثناء العربي“ بدفع العالم العربي نحو الديمقراطية التي هي الآن نظام حكم الجزء الأكبر من العالم، من اليابان والهند إلى أوروبا والأمريكيتين، وهي قادرة على ذلك لأنها قد استفادت وستستفيد من الآليات الديمقراطية، لكن هل تفهم أن الديمقراطية ليست مجرد آليات (مثل الانتخابات) وإنها تمثل أيضا مضامين قائمة على تغليب المواطنة واحترام الحريات الفردية ومنع الاعتداء على هذه الحريات ولو باسم الدين والهويّة؟ هنا يبرز عائق الثقل الأيديولوجي، فهل تقدر هذه الأحزاب على التخلص منه؟ إن مستقبل الربيع العربي سيظلّ مرتهنا بالجواب على هذا السؤال، الجواب العملي وليس الشعارات التي ترفع حوله.
ليست هناك تعليقات:
Write commentsشكرا