قاسم شعيب *
يسابق محمد بن سلمان الزمن لإعلان نفسه ملكاً قبل حدوث أية منغصات. وهو يفعل كل شيء من أجل حرق المراحل وتحقيق أهدافه. ولعل أخطر الخطوات التي يريد إنجازها التخلّص من الكهنوت الوهابي الذي حكم المملكة منذ تأسيسها والانتقال إلى دولة علمانية بالشكل القائم في دول عربية أخرى.
يريد أمير البلاط السعودي الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة العلمانية كما هو مطلوب منه، ليس لأن الملك كان خاضعاً لسلطة رجال الدين، فهذا لا واقع له لأن المؤسسة الدينية كانت دائماً تقدم فتاوى تحت الطلب، بل لأن المطلوب، اليوم، الانتقال إلى مرحلة جديدة يتم فيها التخلي عن إيديولوجية دينية متشددة لصالح أخرى ليبرالية مخففّة سماها "إسلاماً منفتحاً" بعد أن أدّت النسخة القديمة دورها التخريبي كما خُطّط لها. وهذا الانتقال يحتاج إلى جانبين. الأول نظري يتعلق بالأيديولوجية الوهابية. والثاني عملي يتعلق بالإجراءات التنفيذية للحكومة.
في الجانب النظري تحتاج عملية الانتقال إلى تصفية الإرث السلفي الوهابي في مستويين. الأول: هو التعليم. وبالفعل فقد تم تأسيس مركز لتنقيح ومراجعة مناهج التعليم. وهو قائم الآن، ويعمل القائمون عليه، تحت إشراف أميركي، على وضع كتب دراسية جديدة تدرّس في المدارس وتحل محل الكتب القديمة التي تروج للفكر الوهابي العنيف والتي تعارض "روح الإسلام".. كان التعليم ومناهجه الحاضنة الأولى لتفريخ الآلاف من المشوهين فكرياً وأخلاقياً والذين يمارسون القتل والذبح. وقد اعترفت وسائل إعلام سعودية أن 60% من منفذي العمليات الانتحارية في العراق هم سعوديون بينما أظهرت احصاءات أخرى أن السعوديين هم ثاني أكبر جنسية تشارك في الحرب السورية ضد الجيش النظامي. والعمل على تغيير المناهج الدراسية اليوم ليس بسبب اتّضاح دورها في تدمير عقول الكثير من الشباب والكوارث التي أنتجها ذلك، بل لأن مرحلة "الدعوشة" انتهت الآن ويريد الأميركيون الدخول في مرحلة جديدة كما قال الرئيس الأميركي ترامب.
والمستوى الثاني هو الثقافة. وقد كشف وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أن من نتائج القمة التي عقدها ترامب مع القيادة السعودية في ماي الماضي، إنشاء مركز لمكافحة الخطاب الوهابي المتطرف وتغيير المناهج والإشراف على أئمة المساجد وتأهيلهم. وهو يشمل التخلص من الكتب السلفية والوهابية وبالأساس كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب وسائر شيوخ السلفية المؤثرين، مقابل إفساح المجال لكتب من نوع آخر بعيدة التوجهات السلفية. كما يشمل هذا المستوى السماح بافتتاح دور للسينما، وتنظيم حفلات موسيقية مختلطة، وتنظيف وسائل الإعلام من الخطاب السلفي الوهابي.
أما في الجانب الإجرائي، فهناك أولاً المؤسسات الحامية للوهابية. وثانياً الشخصيات المعارضة للتحوّل من أمراء ورجال دين وكتّاب ومثقّفين. وكلاهما تمّ التعامل معه بطرق مختلفة.
بدأ ابن سلمان بقوات المطاوعة أو هيأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي "شرطة دينية" كانت تابعة لوزارة الداخلية التي كانت بيد نايف بن عبد العزيز وورّثها لابنه محمد قبل عزله. ورغم ذلك العزل فإن نايف كان قد بنى معهم علاقات قوية، ومن الطبيعي أن يقفوا ضد محمد بن سلمان في أي نزاع قادم. نقل ولي العهد الجديد بعض صلاحيات الهيأة إلى الشرطة وألغى أخرى. وبذلك خلخل أحد الأذرع الأمنية لحكم آل سعود الذي طالما تمتع دوره بشرعية دينية. وهي مغامرة قد ترتد عليه. وفي السياق نفسه، ينوي ولي العهد التخلي عن لقب خادم الحرمين، وحلّ هيئة العلماء والاحتفاظ فقط بمفتي للمملكة كما هو الحال في بقية الدول العربية.
تبدو الدولة، التي طالما وصفت بمملكة الصّمت، على صفيح ساخن. يخشى محمد بن سلمان أية معارضة للمشروع الذي ينفذه، ولا يريد أيّة أصوات مزعجة توقف طموحه الجامح. وهو لذلك يحتاج إلى كسر الكثير من البيض لصناعة عجّته التي لا يمكنها أن تستوي دون ذلك. سلّة البيض السعودي، التي تحتاج كسراً قبل أن تفقّس، تضم الكثير من الأمراء مثل محمد بن ناف وتركي بن بندر وعبد العزيز بن فهد وسعود بن سيف وسلطان بن تركي الذين تم اعتقالهم.. والدعاة المحسوبين على ما سمي "تيار الصحوة" مثل سلمان العودة وعوض القرني، وحتى كتّاباً وإعلاميين ومسؤولين من مستويات مختلفة مثل الشاعر زياد بن حجاب بن نحيت والكاتب مصطفى الحسن ورجل الأعمال عصام الزامل. وكذلك قضاة وأكاديميين مثل القاضي في المحكمة الجزائية في الخبر، خالد الرشودي، وعميد كلية حوطة سدير، يوسف المهوس.
تم اعتقال أمراء ورجال دين بارزين دفعةً واحدة بينما مُنع كتاب ومغرّدون من الكتابة والتغريد.. ورغم احتجاز الكثير من "الأمراء الصغار" في الأسرة الحاكمة، فإن الخوف الأكبر يأتي من "الأمراء الكبار".
يتبنّى محمد بن سلمان حلولاً انشطارية. فكل قرار يتّخذه يتسبّب في انقسام داخل العائلة الحاكمة وفي المجتمع بين مؤيد ومعارض. قد يبدو هذا طبيعياًَ أمام خطواته المتسارعة للتخلص من سلطة الكهنوت الوهابي، غير أن ذلك يعكس خللاً في البنية السياسية للدولة والتركيبة الاجتماعية للشعب الذي طالما عايش الاستبداد والقمع باسم الدّين.
لم تكن الحرّيات شيئاً معترفاً به في المملكة المترامية، وكان هناك قليل من الآراء المختلفة، من داخل العائلة، يسمح لها بالتعبير عن نفسها. انتفى ذلك اليوم ولم يعد هناك أي صوت مخالف مقبولاً. بل إن الصمت ذاته أصبح جريمة اعتقل بسببها دعاة، فالمطلوب هو التعبير عن مواقف مؤيدة لولي العهد، وليس الاكتفاء بالصمت.
هذه الخطوات، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالصراع على السلطة داخل العائلة الحاكمة، جعلت محمد بن سلمان يعيش منعزلاً بين يخته "سيرين" وقصوره. أصبح أكثر رعباً واضطراباً ولم يعد يظهر بكثرة. فهو يشعر أن أكثر آل سعود ضده وأنه مستهدف بقوة.
ولعل أحدث تعبير عن تلك المعارضة تعرّض قصر السّلام في جدّة إلى هجوم قُتِل فيه عنصران من الحرس الملكي والأرجح أن أبناء الملك فهد والملك عبد الله والأمير نايف الذين يشكلون تحالفاً ضد الملك سلمان وابنه هم من يقف وراءه لإيصال رسالة.
تبدو العائلة السعودية اليوم في مفترق طرق. فقد حكمت لعقود طويلة بقبضة حديدية وسط صحراء الفكر الوهابي، لكنها، اليوم، وهي تحاول تغيير المسار، وصلت إلى مستوى من التصدع الداخلي غير المسبوق، ينذر بالانفجار في أي لحظة.
يستعجل ابن سلمان استواء طبخته لكن ذلك قد يؤدي إلى احتراقها!
________
قاسم شعيب كاتب وباحث تونسي
قاسم شعيب كاتب وباحث تونسي
ليست هناك تعليقات:
Write commentsشكرا