ملاك حمود
لهذا، تمثّل «فرمانات» سعيّد والجدل المُثار في صفوف «النهضة» حيال أفضل السُبل للتعامل معها، اختباراً يكاد يكون وجودياً للحركة، خصوصاً في ظلّ ارتفاع حدّة الاستقطاب بين الإسلاميين والقوى الفاعلة الأخرى في المشهد التونسي، فضلاً عن تحميل الحزب مسؤولية التدهور الحاصل في تونس، وهو ما فاقم الانقسامات القائمة أصلاً في صفوف مسؤوليه حول أزمتَي الاستراتيجية والقيادة. واقعٌ عبّر عن ذلك ابتداءً قيادي كبير في «النهضة»، تحدّث إلى «رويترز»، موضحاً أن أحداً «لا يستطيع أن ينكر وجود خلافات واضحة وحادّة أحياناً داخل النهضة... والتي باتت أكثر وضوحاً بعد الزلزال السياسي الأخير». وعلى رغم احتفاظها بقاعدة من الموالين، ارتبط اسم «النهضة» ارتباطاً وثيقاً بالأزمة الاقتصادية، في ظلّ غياب برنامج سياسي واضح يحدّ من الشلل الذي أصاب البلاد مع ارتفاع معدّلات البطالة وتراجع الخدمات العامة، لينتج من ذلك تهاوي شعبية الحركة، وصولاً إلى تراجع نصيبها من التصويت في انتخابات عام 2019، عندما حصلت على ربع مقاعد البرلمان، فيما خرج مرشّحها للرئاسة، عبد الفتاح مورو، من الجولة الأولى، لينتقل دعمها إلى سعيّد قبل الانقلاب عليه لاحقاً والتحالف مع «قلب تونس». هكذا، لعبت «النهضة» دوراً كبيراً لا يستند إلى رؤية واضحة لكيفية إدارة المؤسّسة التشريعية المعلَّقة أعمالها إلى حين الفكاك من إجراءات «الحالة الاستثنائية». إزاء ما سبق، جاء قرار الحركة بالتراجع عن التصعيد والدعوة إلى الهدوء والحوار، والذي تجلّى خصوصاً في إبداء الغنوشي استعداد حزبه لـ«أيّ تنازلات من أجل إعادة الديموقراطية». وفي الإطار نفسه، جاء تصريح مساعده، ماهر مذيوب، الذي أكد وجوب «تجنُّب التصعيد... لا أحد يريد عنفاً وحرباً أهلية... لا أحد يرغب أن يرى سيناريو رابعة يُعاد في تونس. لذلك، يجب أن تقود التهدئة إلى استئناف المسار الديموقراطي بسرعة، وأن يستمرّ قطار الديموقراطية مع جهود جماعية للتغلُّب على المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية»، في توجّه تعارضه شخصيات أخرى داخل الحزب ترى أن التراجع سيسمح لسعيّد بقمع «النهضة» بسهولة.
وبعد أكثر من عامين على الجدل حول الاستراتيجية الأنسب لاتباعها، والذي جعل من قيادة الغنوشي للحزب موضع شكّ، أثارت محاولات «النهضة» تعزيز نفوذها داخل الحكومة، استياء بعض الأعضاء الأصغر سناً، وأحدثت انقساماً كبيراً في القيادة دفع 100 عضو في الحزب إلى دعوة الغنوشي، العام الماضي، إلى التخلي عن نهجه التوافقي والالتزام بإصلاحات شاملة والتنحي في نهاية المطاف. دعوةٌ عادت لتتكرّر في ظرف سياسي متغيّر، إذ طالب بيان صادر عن عدد من شباب الحركة، بينهم نواب في البرلمان، بحلّ المكتب التنفيذي لـ«النهضة» لاتهامه بالفشل والتسبُّب بتدهور الأوضاع في البلاد، وكذلك تحمُّل الغنوشي مسؤوليته أمام الشعب والالتزام بالمسار التصحيحي والاعتراف بالأخطاء. وقال 130 شاباً إن «تونس تمرّ بمنعطف تاريخي أفضى إلى اتخاذ رئيس الجمهورية إجراءات استثنائية، قوبلت بترحيب شعبي كما أثارت تحفّظ جزء من النخبة السياسية والقانونية»، مضيفاً أن «هذه الوضعية الحرجة، والتي لا يخفى على أحد منّا أن حزبنا كان عنصراً أساسياً فيها، تضعنا أمام حتميّة المرور إلى خيارات موجعة لا مفرّ منها، سواء كان ذلك من منطلق تحمُّل المسؤولية وتجنب أخطاء الماضي، أو استجابة للضغط الشعبي». ودعا «المجلس الوطني للشباب» بالإجماع إلى «تجديد القيادة الوطنية، وإشراك الشباب، وفتح باب الحوار والشراكة مع الرئيس سعيّد والمجتمع المدني واتحاد نقابات العمّال، وكل مكونات المجتمع المدني». ويُظهِّر هذا البيان عمق الفجوة بين تيارَي الشباب والقيادات داخل «النهضة»، فيما تؤكد الأزمة الحالية غياب الدعم الشعبي لتوجّهات الحركة التي سعت، بدايةً، إلى استجداء دعم بعض القوى الإقليمية للتوصّل إلى اتفاق مع الرئيس التونسي. ويرى مراقبون أن ما وصلت إليه «النهضة» من تأزّم وتحفظات على أدائها، سواء من داخل صفوف وقيادات الحركة أو من خارجها، هو نتيجة خياراتها في السنوات الماضية، واستماتتها لتعزيز نفوذها بأيّ طريقة كانت.
ليست هناك تعليقات:
Write commentsشكرا