خليل كوثراني
بعد عام 2011، وبدافع الحاجة الإماراتية إلى كبح رياح ما عرف بـ«الربيع العربي»، أصبح الأمر أكثر انتظاماً؛ تحولت حينها أبوظبي من الجهد الفردي المبعثر، المعتمد في أغلب الأحيان على أسرار رجل دبلوماسيتها الأول، يوسف العتيبة، نحو نشاط مؤسساتي أحكم تخطيطاً وأوسع نطاقاً وأسخى تمويلاً.
بعد عام 2011، وبدافع الحاجة الإماراتية إلى كبح رياح ما عرف بـ«الربيع العربي»، أصبح الأمر أكثر انتظاماً؛ تحولت حينها أبوظبي من الجهد الفردي المبعثر، المعتمد في أغلب الأحيان على أسرار رجل دبلوماسيتها الأول، يوسف العتيبة، نحو نشاط مؤسساتي أحكم تخطيطاً وأوسع نطاقاً وأسخى تمويلاً.
من يوسف العتيبة (سفير الإمارات بواشنطن)، ذلك الرجل «المظلوم» إعلامياً إذا ما قورن بموقع نظيره السعودي السابق بندر بن سلطان، إلى مركز دراسات، وبجانبه بضع مؤسسات وأنشطة أخرى تتمركز معظمها في العاصمة واشنطن، يتشكّل عماد ما بات يعرف بـ«اللوبي الإماراتي في أميركا». اللوبي العربي الأكثر تأثيراً في دوائر القرار الأميركي. ويمرّ نشاط جماعة الضغط الإماراتية في واشنطن في الغالب بسلاسة وهدوء، كحال الدور الإماراتي عموماً، المتخفف من أثقال النمطية الأيديولوجية وتبني الأجندات الخاصة بموازاة الأجندة الأميركية الأم.
ومنذ سنوات قليلة، وجد الإماراتيون أنفسهم في مواجهة مستجدة، غير مباشرة، مع القطريين الذين اتخذوا قرار الوقوف إلى جانب تفرعات «الإخوان المسلمين» في البلدان التي شهدت انتفاضات أو حراكاً لتغيير الأنظمة، وهو ما واجهته أبوظبي بكل ما أوتيت من ثقل وإمكانات، من بينها تسخير النفوذ في واشنطن، لضرب «الإخوان» وقطر، وشيطنتهما.
القصة تعود إلى أكثر من سنتين، وفق صحيفة «نيويورك تايمز»، التي نشرت مقالاً حينها، كشف فيه الكاتب دافيد كيركباترك، عن «تحالف مصالح غير متوقع، هدفه تصوير الدوحة على أنها عراب الإرهابيين في كل مكان». فالإمارات، وفق الكاتب، تعاقدت «مع مؤسسة استشارية أميركية اسمها (كامستول غروب)، يعمل فيها عدد من المسؤولين السابقين بوزارة الخزانة الأميركية. وتشير الأوراق الرسمية للمؤسسة، والمسجلة على أنها وكيل أجنبي، إلى نمط متكرر من المحادثات مع الصحافيين الذين ما لبثوا أن كتبوا مقالات ناقدة لقطر تتهمها بلعب دور في جمع الأموال للإرهابيين». واللعبة نفسها، بالمناسبة، لم تزهد بها القنوات القطرية في الغرب.
النميمة والوشاية الخليجيتان في واشنطن، تحدث عنهما أيضاً، في وقت سابق، الصحافي البريطاني، غلين غرينوولد، في تقرير نشره موقع «ذي إنترسبت» الأميركي.
هذه المعلومات، وغيرها، تفسر ما حدث عشية قمة الرياض وغداتها، وتفجر الخلاف الخليجي، الذي سمح ببروز مقالات وندوات «بالجملة والمفرق»، تناولت الدور القطري وركزت على وسم الدوحة بدعم الإرهاب ورعايته، مع تحييد الدورين السعودي والإماراتي في هذا الجانب.
تحييد السعودية؟
هذه الخلفية، مع متابعة مجريات التطورات منذ الساعات الأولى لظهور الخلاف الخليجي البيني، تشرحان كيف أن موجة الإقصاء والحصار ضد قطر، تقودها دولة الإمارات، وبالتحديد ولي عهدها محمد بن زايد. فعلى عكس الرياض، لم تبد أبوظبي أي إشارة إلى القبول بـ«احتواء» المشيخة «المشاغبة»، في العامين الماضيين، وأبقت على مسافة الخصومة معها بنحو جلي لا لبس فيه. واليوم، لعلّ اشتعال الصدام في ساحات تنازع النفوذ، في مقدمتها الساحتان الليبية واليمنية، يعزز نظرية أن الخلاف إماراتي ــ قطري بالدرجة الأولى، لا على قاعدة الهجوم الأحادي الجانب من طرف محمد بن زايد، بل ضمن سلسلة من الركلات المتبادلة، تميزت آخرها باستجابة طوعية واضحة من قبل محمد بن سلمان في الرياض، والتحاق مصري ــ بحريني، أخذ طابع التهليل والتصفيق، تشفياً وانتقاماً.
القطريون، بدورهم، ساعدوا في الأيام القليلة الماضية على تثبيت هذا التوصيف، من خلال الرد على الإمارات ومصر، وتحييد السعوديين من المواجهة، بل وإرسال إشارات الطمأنة إلى السعوديين عبر تسليم أحد الناشطين المطلوبين إلى الرياض.
وزادت الدوحة من بعث رسائل تدلّ على حصر الصراع مع الإمارات، بواسطة ترويج فكرة غضب الإماراتيين من إفشال «الانقلاب» الذي تدعمه أبوظبي في جنوب اليمن، بحسب رواية الإعلام القطري، في إشارة إلى ارتدادات قرار إقالة محافظ عدن.
وفي الحرب الإعلامية المتواصلة بين القنوات الخليجية، فتح مجدداً ملف الصراع في ليبيا، الساحة الأكثر احتواءً للتجاذب القطري ــ الإماراتي منذ فترة بعيدة، حيث تدعم الدوحة القوى الإسلامية قبالة تيار اللواء خليفة حفتر المدعوم إماراتياً، بالتمويل والغارات الجوية.
حسم وجهة الرياض
في لحظة قمة الرياض، رأى محمد بن سلمان أن الاستجابة إلى طرح محمد بن زايد حول ضرورة إخراج قطر من «اللعبة»، باتت مناسبة، وفق ما كان يرغب هو نفسه. مشاهدة تجمع الزعماء لأخذ الصورة التذكارية مع ترامب في الرياض، وكيفية تقدم محمد بن زايد مزاحماً لأمير قطر الواقف على يمين الرئيس الأميركي، تحاكي إصرار الأول على إقصاء قطر من التنافس على الوكالة الأميركية.
وكالةٌ بات يشعر بن زايد بقدرته على جعلها حصرية مع شراكة الرياض، بعد كل هذه «النجاحات» التي حققها في اليمن والقرن الأفريقي. يحاول الرجل تجاهل مسألة أن احتضان قطر للتيارات الإسلامية كان بعلم الولايات المتحدة ودرايتها وتفويضها، إلا أن ما يحاول بن زايد فعله هو قلب أوراق قوة الدور القطري ضد الدوحة نفسها.
وفي الرياض، يجد محمد بن سلمان أن السير خلف بن زايد هو الأربح، لجملة أسباب. أولها عدم الارتياح إلى الدور القطري المعاند لزعامة الرياض الإقليمية تاريخياً، والثاني حاجة داخلية تتمثل في إضعاف خصمه محمد بن نايف صاحب نظرية الانفتاح على تركيا وقطر وتيار «الإخوان» في المنطقة، ومهادنة هذا التيار للاستفادة منه مرحلياً (وهو خيار أخذ به فريق الحكم الجديد قبل سنتين، وبرز بوضوح مع القفز على وضع الإخوان على لائحة الإرهاب أيام الملك عبد الله، وترجم تعاوناً في اليمن، وتراجعاً للحملات الإعلامية على التيارات الإخوانية، إلى أن استعمل بن سلمان عبارة «الإخونجية» في مقابلته الأخيرة).
ثم إن العمل وفق أجندة ترامب الجديدة، وتكريس الأخير لزعامة السعودية في المنطقة، عبر قمة الرياض، أمران يفسحان في المجال أمام السعودية لإعادة تصويب البوصلة، ويشكلان فرصة لسحق أي تمرد على القيادة السعودية للوكالة الأميركية في المنطقة. وببساطة، فضّل بن سلمان شراكة بن زايد في هذه الوكالة، على شراكة الدوحة، وهو أمر لم يكن أكيداً أن ابن عمه، محمد بن نايف، كان سيأخذ به.
بحسب المتابعين لمحمد بن سلمان، فإنه يبدو شديد التأثر بمحمد بن زايد، إلى حد اعتقاد البعض أن الأخير يسيطر على قرارات الأمير الشاب. ويشعر محمد بن سلمان بحاجة إلى هذا الالتصاق بمحمد بن زايد، نظراً إلى طموحه الجامح حالياً نحو خلافة والده وتخطي ولي العهد، محمد بن نايف، الساخط على بن زايد، الذي نعت والد بن نايف بعبارة قاسية، بحسب تسريبات «ويكيليكس». وبالتالي يعِد بن زايد، محمد بن سلمان، بمساعدته على تحقيق طموحه، خاصة لناحية تسويقه في الغرب، وإعانته على حصد نجاحات في الملفات الإقليمية، إذ يدرك بن سلمان أهمية ما وصلت إليه أبوظبي لدى الإدارة الأميركية أخيراً. وفي آخر التقييمات الغربية لدور الإمارات، أشارت «ذي آتلانتيك» إلى أن دور أبوظبي «يثير إعجاب صناع الاستراتيجيات الأميركية (من كلا الحزبين)، الذين لطالما حلموا بشريك مماثل في المنطقة»، منوهة بدلالات زيارة بن زايد للبيت الأبيض عشية قمة الرياض.
بانتظار الموقف الأميركي
مع كل هذا الضجيج والصخب الإعلامي، ليس ثمة ما يكشف عن وجود تواطؤ أميركي مع الإماراتيين والسعوديين على فكرة إقصاء قطر من المعادلة، وتقديمها كبش فداء في «الحرب على الإرهاب». بل على عكس رغبات الرياض وأبوظبي، أوحى خبر مباحثات وزيري الخارجية الأميركي والقطري، أول من أمس، باطمئنان الدوحة حيال وضعها الحالي. وذكرت وكالة الأنباء القطرية أن الجانبين أكدا متابعة نتائج القمة الأميركية القطرية، على هامش قمة الرياض، وبحثا سبل التعاون في الملفات الإقليمية ومكافحة الإرهاب.
الملاحظ، حتى الآن، أن السعودية والإمارات تمضيان في خطوات اللاعودة مع قطر، على الرغم من عدم وجود تحرك رسمي صريح ضد الدوحة بعد، سوى قرارات حجب المواقع القطرية ومواصلة الهجوم الإعلامي، مع تصريحين رسميين يتيمين، لم يذكرا قطر صراحة.
ويبدو أن ما ينتظره بن سلمان وبن زايد، هو تجاوب أميركي مع هذه الحملة، يحسمه قرار نقل «قاعدة العديد» الجوية الموجودة في قطر، وفق الرغبة التي يُعبَّر عنها بوضوح في الإعلامين السعودي والإماراتي. ووصول الضغوط السعودية الإماراتية إلى هذه المرحلة يرجح كفة القراءة بأن الهدف من هذه الحملة إقصاء قطر لا ممارسة الضغوط عليها بهدف ضمان وجودها في «الحظيرة»، ما يعني أن زمن الاحتواء السعودي للدوحة ولّى إلى غير رجعة. احتمال عززه تصريحان رسميان: الأول لوزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، حين غرد قائلاً: «حل الأزمة بين الشقيق وأشقائه طريقه الصدق في النيات والتزام التعهدات وتغيير السلوك الذي سبب ضرراً، وفتح صفحة جديدة، لا العودة إلى نفس البئر»، ما يعني إعلان دفن مرحلة المصالحة الخليجية، وتغليظ شروط العودة القطرية التي لم يقفل التصريحُ بابَها؛ والثاني لوزير الدولة السعودي لشؤون مجلس التعاون الخليجي، ثامر السبهان، في تغريدة قال فيها بلهجة أعلى سقفاً: «علمنا التاريخ منذ عهد الملك عبد العزيز أن دولتنا تتعرض لمؤامرات ودسائس وتستخدم فيها كل فنون الشر، هم سقطوا وهلكوا في مزابل التاريخ ونحن أقوى». أما مدير اللوبي السعودي في واشنطن فذهب أبعد من ذلك، مهدداً أمير قطر، بالقول: «محمد مرسي فعل نفس الشيء وتم عزله وسجنه».
بأي حال، فإن استجابة قطرية للمطالب التي تصل إلى قطع العلاقة مع «الإخوان» و«حماس»، تبدو شبه مستحيلة اليوم، نظراً إلى كون رضوخ من هذا النوع يمثل اجتثاثاً للدور الإقليمي للدوحة. هذه المرحلة المعقدة من الأزمة الخليجية، تفتح الباب على التساؤلات عن مآلات الأيام المقبلة، وهل ينجح رهان بن سلمان وبن زايد على إدارة ترامب لتلبية رغباتهما تجاه الدوحة؟ والسؤال الأهم في حال استمرار استعار الخلاف: كيف سيكون انعكاس هذا التباعد على ساحات الصراع في كل من ليبيا واليمن وسوريا؟
المرجح، في ضوء الاستراتيجية الترامبية، أن واشنطن ستنتهز الفرصة لابتزاز الدوحة، وطلب المزيد من الاستثمارات التي قام بها جهاز قطر للاستثمار، وفتح خزائن صندوق الدوحة السيادي لضخ الأموال داخل الولايات المتحدة، في مقابل ضمان عدم التعرض لها من قبل الخصوم.
ليست هناك تعليقات:
Write commentsشكرا