سامي كليب
لم ينتبه كثيرون الى عبارة خطيرة وردت في خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أمام المجلس الاستشاري الأخير لحركة «فتح»، عندما أشار الى أن «مشروع جنيف 2 صناعة فلسطينية». قد يكون في التوصيف بعض مغالاة، لكن فيه، أيضاً، كثيراً من الواقعية تكشفها وثائق توفّرت مؤخراً حول دور «أبو مازن» في الدفاع عن سوريا والمساهمة في اطلاق سراح المخطوفين اللبنانيين في أعزاز. ولعلّ هذا الدور، الذي بقي بعيداً من الاضواء، اكتسب أهمية خاصة أيضاً لأنه تزامن مع الاتهامات السورية لحركة «حماس» بالتورّط في الحرب. أمر مهّد لعلاقة اشتدت أواصرها لاحقاً مع القيادة السورية
ليس محمود عباس طارئاً على سوريا. عرفها مذ وصلها يافعاً مع اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة. لا يزال، حتى اليوم، يرسم للبلد الشقيق والمضيف صورة مشرقة يذكرها كلما طاب له ذكرها. حين غرقت سوريا في حربها، اختار «ابو مازن» ان يبحث عما يصلح ذات البين وينحو صوب حل سياسي. أدرك عباس، ذو التجربة الطويلة في العمل السياسي، أن من مصلحة الفلسطينيين المقيمين على الاراضي السورية أن يبقوا في منأى عن الصراع، لكنه لم يفلح كثيراً في منعهم من الغرق فيه. كانت تدخلات اخرى في المخيمات، وخصوصاً اليرموك، أقوى من مساعيه.
سعى عباس، بداية، الى ربط علاقات مع بعض اطراف المعارضة الداخلية. كانت الاتصالات الاولى مع هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة، وتحديداً مع كل من حسن عبد العظيم ولؤي حسين والدكتورة منى غانم وزيرة شؤون الاسرة سابقاً وامينة سر تيار بناء الدولة. أرسل موفدين الى دمشق تحت غطاء بحث الملف الفلسطيني. أسند ربط الخطوط من دمشق الى بيروت فعمان الى الناشط الفلسطيني نضال السبع، ابن المناضل سعيد السبع اول مدير لمكتب منظمة التحرير في الجزائر والسودان وممثل فلسطين في مؤتمر القمة العربي الذي عقد بعد نكبة 1967 والمجاهد الى جانب الشهيد عبد القادر الحسيني.
بقرادوني على الخط
كانت فكرة «ابو مازن» انه لا بد من حوار سوري ــــ سوري. سعى حثيثاً الى ذلك. لكنه بحث، ايضاً، عن كيفية اعادة ربط بعض خيوط الاتصال بين القيادة السورية وكل من المشير عبد الفتاح السيسي في مصر والرئيس الاميركي باراك اوباما.
زار الوسيط الفلسطيني دمشق في 7 آذار 2013. قصد رئيس جهاز الامني القومي اللواء علي المملوك. جرى بحث في الاحتمالات. كان المملوك قد أعدّ نسختي «دي في دي» تحتويان الكثير من المعلومات المتعلقة بعمليات «القاعدة» في سوريا وصوراً لبعض العمليات الخطيرة. سلّمت إحدى النسختين الى الوزير السابق ورئيس حزب الكتائب سابقاً كريم بقرادوني الذي كلف بنقلها الى «ابو مازن» في عمان. كان بقرادوني على خط بعض الاتصالات مع المعارضة الداخلية السورية بغية البحث عن قواسم مشتركة بينها وبين القيادة السورية. بعض الاجتماعات لأطراف المعارضة حصلت في منزله في بيروت.
في مرحلة لاحقة، بلورت القيادة الفلسطينية في رام الله مشروعاً لحل سياسي قدّمته الى هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة. ارسلت نسخة منه الى منسق هيئة التنسيق في المهجر هيثم منّاع. كانت النصيحة الفلسطينية ان تتوحّد هيئة التنسيق وتيار بناء الدولة والمعارضة الداخلية في جبهة سياسية واحدة لتشكيل نواة صلبة وتوسيع هامش المعارضة. تزامن ذلك مع فتح قناة اتصال بين لؤي حسين والشيخ معاذ الخطيب رئيس «الائتلاف السوري المعارض» يومها. ساهمت الاتصالات في اقناع الخطيب بالمجاهرة بالاستعداد للحوار مع النظام. اعتقد البعض ان اميركا نصحته بذلك. نفت واشنطن ليتبين ان ناصحيه هم فلسطينيون.
حصل لقاء، بالصدفة أيضاً، في أحد فنادق عمان مع الرئيس الحالي لـ «الائتلاف» أحمد الجربا. كان الوسيط الفلسطيني هناك مع وفد تيار بناء الدولة.
توالت خطوات معارضة الداخل لتشكيل نواة صلبة للمعارضة، واقناع معارضة الخارج بتوسيع النواة والاتجاه نحو حل سياسي تفاوضي. عقد في جنيف «مؤتمر جنيف للمعارضة الديمقراطية السورية» يومي 28 و29 كانون الثاني 2013، أعقبه اجتماع «الحلف المدني الديمقراطي» يومي ٢ و٣ آذار الماضي. صاغ الحلف مبادرة تفيد بقبوله «عدم وضع شروط مسبقة للحوار مع النظام»، لكنه اضاف «ضرورة ان يكون للحوار عنوان واضح هو الدخول في مرحلة انتقالية، اعتماداً على بيان جنيف ١ والوصول، عبر التفاوض، الى حكومة بصلاحيات كاملة وإنتخاب رئيس جديد».
نضال السبع يسلّم عباس هدية علي مملوك
تلقى الوسيط الفلسطيني نسخة من البيان الختامي. ناقشها مع بقرادوني. تبيّن أن فيها الكثير من النقاط الايجابية التي يحتمل أن يوافق النظام عليها. صيغت من البيان ثماني نقاط نُقلت الى اللواء المملوك الذي سرعان ما سأل الوسيط: «من اين جئت بها؟». بعد ثلاثة ايام جاء الجواب من القيادة السورية: «الورقة جيدة، ولكن دمشق تتحفظ عن بند الحكومة بصلاحيات واسعة، كما يحق للرئيس بشار الاسد ان يترشح في أي انتخابات رئاسية جديدة». نصح المسؤول السوري، كذلك، بضرورة ان يشدد «ابو مازن» في لقاءاته الدولية على دور «القاعدة» وتنامي الارهاب في سوريا.
تلقت منى غانم التحفظات السورية. استهجنت، بداية، صياغة البنود الثمانية، وسألت من اين جاءت. قال الوسيط انها خلاصة بيان الحلف المدني الديمقراطي في فرنسا. قالت: «اننا متمسكون بنقاط البيان، بما فيها ما يتعلق بالصلاحيات والرئيس».
عباس لأوباما: فليترشح الاسد
سجل الوسيط الفلسطيني التحفظات وأرسل الورقة ببنودها وتحفظاتها الى الرئيس عباس في ١١ آذار ٢٠١٣. ذهب بعدها بيومين الى موسكو، وقدّم الورقة الى الرئيس الروسي. اهتم فلاديمير بوتين بالاقتراحات. وسّع الاجتماع ليضم كلاً من وزير الخارجية سيرغي لافروف ونائبه ميخائيل بوغدانوف بوصفهما المكلفين من الكرملين بمتابعة ملف الازمة السورية.
عاد عباس من موسكو ليستقبل بعد اسبوع، وتحديداً في ٢٠ آذار ٢٠١٣ الرئيس الأميركي باراك أوباما في رام الله. قال له ابو مازن: «هذه ورقة تحوز بالحد الأدنى على موافقة كل الأطراف». توقف أوباما عند تحفظات النظام على بندي المعارضة بخصوص الصلاحيات وعدم ترشح الاسد. سارع عباس للنصح بتجاوز الشروط المسبقة. قال: «ليطرح هذا الموضوع للتفاوض في جنيف ٢، فحين نذهب للتفاوض يجب ان لا نحدد ما يجب ان نختلف او نتفق عليه مسبقاً».
قال اوباما ان من الصعب القبول بترشح الاسد، فردّ ابو مازن: «لنعتبر ان المواطن السوري بشار حافظ الاسد يريد الترشح، كيف ستمنعه؟ لننتظر ماذا تقول نتائج صندوق الانتخاب». بدا أوباما موافقاً على تجاوز هاتين النقطتين. لاحقاً، قال الرئيس الفلسطيني لبعض المقربين «ان قضية ترشح الاسد سُحبت من التداول الدولي، ولم تعد السبب الذي يحول دون جلوس مكوّنات الازمة السورية على طاولة التفاوض الحر». ثمة من نقل عنه أكثر من ذلك: «لقد قطع النظام السوري مرحلة الخطر».
تبيّن ان ورقة التفاوض قطعت، هي الاخرى، مرحلة الخطر. صارت مادة جيدة لـ «جنيف 2». نوقشت في لقاء وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة. بعد ذلك، وصل بوغدانوف الى لبنان مروراً بطهران. فور وصوله، عقد لقاء مع وفد من هيئة التنسيق الوطني ضم حسن عبد العظيم ورجاء الناصر وصالح المسلم (الحزب الديمقراطي الكردي). قال المسؤول الروسي لهيئة التنسيق: «أنتم الممثل الشرعي للمعارضة الداخلية وستكونون جزءاً أساسياً من جنيف ٢». انتعش الحاضرون.
عباس يستقبل وفد "تيار بناء الدولة" (لؤي حسين ومنى غانم) بحضور نضال السبع
لم تتوقف مساعي محمود عباس عند هذا الحد. أبقى الاجتماعات قائمة على اكثر من مستوى مع المعارضة. استقبل في عمان كلاً من حسن عبد العظيم ورجاء الناصر واحمد العسراوي (عضو المكتب التنفيذي في هيئة التنسيق). قال للحاضرين: «انا ساعي خير في الازمة السورية وغير منحاز، وأنا مع كل الشعب السوري وأطيافه. ما يدفعني الى هذا الجهد هو انني اعتقد انه إذا تجاوزت سوريا أزمتها بخير ومن دون نتائج سلبية على مستوى وحدتها ودورها القومي، فان هذا سيمثل انتصاراً للقضية الفلسطينية». وتحدّث «ابو مازن»، بمرارة، عن الانعكاسات السلبية للاحداث السورية على القضية الفلسطينية. قال ان القضية غابت عن الاعلام العربي والعالمي لتحلّ مكانها أخبار الغوطة ودرعا.
فوجئ المعارضون السوريون بحجم النقد الذي وجّهه عباس لجماعة «الاخوان المسلمين». طال نقده الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي. تعمّد، في المقابل، كيل المديح لوزير الدفاع المصري المشير عبد الفتاح السيسي. قال إن دوراً مهماً ينتظر مصر الجديدة على الصعيد العربي والاقليمي والدولي، ونصح هيئة التنسيق بتوثيق علاقتها بمصر، واعداً بأن يساهم شخصياً في تأمين الاتصال. ويبدو انه فعل. فخلال زيارة الاخضر الابراهيمي الاخيرة الى سوريا، قال لحسن عبد العظيم انه لمس اهتماماً خاصاً به من قبل «ابو مازن» والسيسي.
عُقد لقاء عباس مع هيئة التنسيق في ٢١ أيلول ٢٠١٣، وتبعه لقاء آخر مع تيار بناء الدولة ايضاً، في عمان، في ١٤ تشرين الأول ٢٠١٣. استمع في اللقاء الثاني من لؤي حسين الى مداخلة مطوّلة عن تاريخ الازمة السورية وتطوّرها. قال ان تياره يسعى الى حل سياسي سلمي، وانه يراهن على الرئيس الفلسطيني ذي النشأة السورية لتسهيل ذلك. حضر اللقاء حفيد «ابو مازن»، وتخللته بعض الهدايا.
«ابو مازن» والكيميائي السوري
في الرابع من أيلول ٢٠١٣، وفيما كانت مخاطر التدخلات العسكرية الخارجية تلقي بظلالها على سوريا، اتصل رجاء الناصر، امين سر هيئة التنسيق، هاتفياً، بنضال السبع، قناة اتصال «ابو مازن» في لبنان، طالباً موعداً عاجلاً مع السفير الروسي الكسندر زاسبيكين. حُدّد الموعد بعد يومين. وصل الناصر والسبع الى السفارة، تبعهما حسن عبد العظيم قادماً بسيارة أجرة من دمشق.
عُرض خلال الاجتماع اقتراح ينص على ان تضع الحكومة السورية ترسانتها الكيميائية في عهدة خبراء روس، على ان تستعيدها بعد حل الازمة بناء على «جنيف ٢».
نوقش اقتراح من ثلاثة بنود: أولها التخلي عن الترسانة الكيميائية، وثانيها عقد جلسة عاجلة لـ «جنيف ٢»، وثالثها وقف لاطلاق النار. قال السفير الروسي الذي يعمل نجله كأبرز مساعدي بوغدانوف: «هذا يفترض عقد جنيف ٢ خلال شهرين. هل تكون المعارضة السورية جاهزة في غضون هذه الفترة؟». ردّ الحاضرون: «نعم».
اقترح زاسبيكين ان يصبح الاقتراح مشروع مبادرة حل للكيميائي تعلنه هيئة التنسيق فتتبنّاه موسكو وتقدّمه على أنه مبادرة دولية. غادر وفد الهيئة بيروت الى مصر للمشاركة في «مؤتمر لنصرة سوريا» بدعوة من حمدين صباحي.
بعد اقل من ٢٤ ساعة، أي في 7 ايلول، اتصل السفير الروسي بالوسيط الفلسطيني. كانت الساعة تشير الى السابعة صباحاً. قال له «ان لافروف يشارك في قمة العشرين، وهو موجود معي على الخط، ويريد صياغة المبادرة حول الكيميائي من هيئة التنسيق. لا بد من ان يعلنوها». اتصل السبع برجاء الناصر الذي ارسل المبادرة الى بريده الالكتروني. تبيّن ان مرسلها هو هيثم مناع .
كانت المفاجأة ان بنداً رابعاً قد اضيف الى المبادرة يشدّد على انشاء حكومة انتقالية موسّعة الصلاحيات. تبيّن ان الإضافة جاءت من قبل المجلس التنفيذي في الهيئة.
في التاسع من أيلول ٢٠١٣، وصل وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى موسكو ليعلن، بعد ساعة واحدة من اجتماعه بلافروف، الموافقة على الحل الكيميائي بحسب الصيغة الراهنة التي انتجتها المداولات الدولية لاحقاً.
كان محمود عباس قد ابلغ قناة اتصاله، بعد تسلمه ورقة هيئة التنسيق حول الحل الكيميائي، ان الفكرة في طريقها الى أن تتخذ بعداً دولياً، بحيث تتم اعادة إنتاجها على نحو ينزع فتيل هذه الازمة، ويشكّل، في الوقت عينه، مدخلاً الى عقد «جنيف ٢». وقال انه هو نفسه يسعى الى تمريرها حيث يستطيع مع قادة الدول الذين يلتقي بهم.
قدّرت القيادة السورية عالياً دور عباس في كل ذلك. أرسل له اللواء علي المملوك نسخة من قرآن نادر غير منقّط. أُرسلت نسخة اخرى الى السفير الروسي في بيروت.
ماذا بعد؟
يقول مقربون من عباس إن لديه الآن «خطة ب» لانقاذ «جنيف 2» في حال فشله بسبب الشروط والشروط المضادة. ربما كان هذا ممكناً وربما لا. لكن الاكيد ان دور عباس في وأد الحرب السورية وتفادي تدخل خارجي يبقى، في كل الاحوال، أفضل بكثير من ادوار عربية ارادت لسوريا ان تُدمر وتنتهي.
رسالة هيثم مناع إلى الوسيط الفلسطيني
هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي: خطوات لقطع الطريق أمام التدخل العسكري
بناء على مداولات المكتب التنفيذي والبيان الصحفي الصادر عن الاجتماع بتاريخ 2013/8/31، ونظراً للظروف الخطيرة والمتمثلة باستخدام السلاح الكيماوي وتصاعد أعمال العنف مما يهدّد وحدة البلاد ويساهم في خلق أجواء تندفع من خلالها التهديدات الخارجية بالتدخل العسكري، ولقطع الطريق على مثل تلك التداعيات، تقترح هيئة التنسيق الوطنية الخطوات التالية:
1 ــــ يتم توافق دولي سوري على وضع السلاح الكيماوي بإشراف مباشر من روسيا الاتحادية، ويسلم بعد تشكيل حكومة انتقالية إلى السلطات السورية الرسمية آنذاك.
2 ــــ يتم الاتفاق على عقد جلسة عاجلة لمؤتمر جنيف 2 خلال أسابيع على قاعدة المبادئ التي تم التفاهم عليها في جنيف1، وبمشاركة قوى المعارضة الأساسية.
3 ــــ يكون وقف إطلاق النار المتزامن البند الأول على جدول أعمال مؤتمر جنيف ويترافق مع وضع آلية عملية له.
4 ــــ تُسَلم السلطة بشكل عاجل إلى حكومة انتقالية ذات صلاحيات كاملة وبرئاسة شخصية معارضة يتم التوافق عليها تأخذ على عاتقها إدارة البلاد والحفاظ على مؤسسات الدولة ووحدة المجتمع والتحضير للانتقال الديمقراطي.
دمشق
المكتب التنفيذي
أمين السر/ نائب المنسق العام في المهجر/ المنسق العام
مقترح لؤي حسين لـ «أبو مازن»
مقترحات لعقد مؤتمر جنيف 2
لا يجوز أن يقتصر الحل على أطراف النزاع فقط، بل يجب أن تشارك في هذا الحل أيضاً الأطراف التي لا تنتمي إلى أطراف النزاع.
لا يجوز، بأي شكل من الأشكال، أن يفشل مؤتمر جنيف 2. من ناحية الاتفاق على وقف إطلاق نار بين النظام والمجموعات المسلحة، التي تقبل ذلك. ومن ناحية الاتفاق على تأليف حكومة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، تقود المرحلة الانتقالية.
يجب الاتفاق بين جميع الأطراف، قبل انعقاد المؤتمر، على أن المرحلة الانتقالية لا سمة رئيسية لها، ولا تتركز السلطة فيها بيد شخص واحد أو طرف واحد، بل هي مرحلة انتقالية بين حالة النزاع المسلح، ومرحلة انتخابية تحتكم فيها جميع الأطراف إلى صناديق الاقتراع. لا بد من تأجيل فكرة المساءلات والمحاسبات القانونية إلى فترة لاحقة. فالأولوية الآن لإيقاف حالة الاقتتال وزيادة الارتكابات.
لا بد من قبول أنه لا يمكن تمثيل جميع السوريين أو جميع الأطراف السياسية في المؤتمر، لكن يجب أن يكون المؤتمر بداية لعملية سياسية مفتوحة، يمكن أن تنضم إليها أطراف إضافية في أي وقت. وكل هذا يعني ضرورة وجود وفد سوري ثالث، إضافة الى وفد السلطة ووفد المعارضة، كي لا تكون اتفاقيات جنيف بين طرفي النزاع فقط من دون مشاركة الأطراف التي لم تكن مع السلطة والمعارضة في نزاعهما المسلح، وهي تعبر عن إرادة الغالبية الساحقة من السوريين. ويتماشى هذا الأمر مع بيان جنيف، الذي يرى أن هيئة الحكم يجب أن تتألف من شخصيات من السلطة والمعارضة والأطراف الأخرى. وبالتالي أن يتألف وفد السلطة من شخصيات مخوّلة ومفوّضة من السلطة السورية، إضافة إلى أطراف ومجموعات تقبل أن تكون ضمن هذا الوفد. ويتألف وفد المعارضة من شخصيات من الائتلاف السوري، والمجموعات والقوى التي تقبل أن تكون ضمن وفد المعارضة. ويتألف الوفد الثالث من مجموعات سياسية ومدنية يكون مركز عملها في الداخل السوري، إضافة إلى شخصيات عامة ممن لم تكن مع السلطة أو المعارضة في نزاعهما المدمر. ويشارك في هذا الوفد ممثلون عن المجموعات المسلحة المعارضة، التي لا تريد أن تكون ممثلة بوفد المعارضة.
وتشرف على تأليف هذا الوفد بعثة السيد الأخضر الإبراهيمي، وتحديداً مكتب دمشق، إضافة إلى الرئيس الفلسطيني السيد محمود عباس.
«أبو مازن» ومساعي حلّ الأزمة السورية | عباس لهيئة التنسيق: احذروا الأميركيّين وثقوا بالروس
سعى «أبو مازن» إلى إبقاء اتصالاته بعيدة عن عيون الأميركيين والفرنسيين
بعد نشر الجزء الأول من وثائق حول دور الرئيس الفلسطيني محمود عباس في السعي الى حل الأزمة السورية، وصلتنا مجموعة أخرى من الوثائق والاتصالات تؤكد أن «أبو مازن» سعى الى إقناع المعارضة بالانفتاح على موسكو والحذر من أميركا، وساهم في المبادرة العربية الأولى، ودفع أموالاً لبعض أركان المعارضة في المجلس الوطني وغيره، وكان دائماً حريصاً على الحل السلمي التفاوضي، لا على أي حل عسكري أو تدخل أجنبي. الجزء الأول، الذي نشرناه قبل أسبوعين، ركّز على علاقة عباس مع تيار بناء الدولة. في هذا الجزء، رواية عن علاقته الوطيدة بهيئة التنسيق، ثم الانفتاح على كل أطياف معارضة الخارج
حصل اللقاء الأول بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس هيئة التنسيق الوطنية في الخارج هيثم منّاع، في فندق «موريس» في باريس، في نيسان 2011. استمع «أبو مازن»، بإمعان، الى شرح منّاع. كان القيادي المعارض يؤكد لاءاته الشهيرة: لا لتسليح الثورة، لا للتدخل الخارجي، لا لأسلمة الثورة. اعتبر أن التسليح ينتهي بانتصار صاحب السلاح الأهم، أي السلطة. ورأى أن الأسلمة تدفع الى التمذهب والتطيّف. أما التدخّل الخارجي فيعني الخيانة. كان محقّاً في كل ذلك.
انطلقت العلاقة على نحو دائم وممتاز بين الجانبين. صار «أبو مازن»، كلما سافر الى باريس، يكلّف رئيس استخباراته بالاتصال برئيس هيئة التنسيق المقيم هو الآخر في فرنسا ويلتقيان.
جرى اللقاء الثاني في الفندق نفسه قبيل المبادرة العربية. اقترح عباس ذهاب وفد من هيئة التنسيق للقاء وزير الخارجية المصري نبيل العربي. قال منّاع: «ليس عندي مشكلة معه، فهو رجل أحترم مواقفه». كلّف عباس كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات الاتصال بالعربي. فوجئ الوزير المصري بالطلب، وسارع الى القول: «أنا مش عايز أشوف هيثم المالح». ضحك عريقات، وقال: «لا. لا. أنا أحدثك عن هيثم منّاع»، فأجاب العربي: «آه، ده رجل محترم». تحادث منّاع والعربي مباشرة عبر الهاتف وحُدّد موعد اللقاء.
يعرف محمود عباس عائلة منّاع جيداً (اسمها الحقيقي هو العودات، وقد حمل هذا الاسم من زوجته الراحلة لظروف خاصة، علماً بأن منّاع قريب لنائب الرئيس السوري فاروق الشرع وللكاتب المعارض حسين العودات). كان «أبو مازن»، في شبابه، يزور درعا، ويوزع روزنامات حركة فتح بعيد تأسيسها للحصول على دعم مادي. آنذاك، تعرف على والد هيثم في المنطقة التي انطلقت منها شرارة الأزمة السورية، وعبرها قد تمر شرارات أزمات أخرى إذا استمر الخيار العسكري قائماً.
ذهب منّاع مع عدد من رفاقه الى القاهرة. كان اللقاء مع العربي ودياً وأكثر ميلاً الى الحل السياسي. جرى البحث في عدد من الاحتمالات. تعزّز الحوار في جلسات لاحقة، حضر بعضها أيضاً الكاتب سمير عيطة. في تلك اللقاءات مع «أبو مازن» والعربي، وُضعت البذور الأولى للمبادرة العربية التي تغيّرت مضامينها لاحقاً مع الدخول الخليجية، وتحديداً دخول القطري والسعودي على الخط. في تلك اللقاءات أيضاً، وضعت بعض بذور الحل في جنيف وآفاق التسوية السياسية مع السلطة.
«أبو مازن»: لا أثق بأميركا
نصائح «أبو مازن» لوفد هيئة التنسيق كانت لافتة. في أحد اللقاءات قال لهم: «كل الناس تعتبرني رجل أميركا. ربما نحن أخطأنا بحصرية الاعتماد على الأميركيين في مرحلة معينة، فلا تكرروا خطأنا. لا تعفّسوا كما عفّسنا». قالها باللهجة الدارجة، مضيفاً: «أنا أكثر ثقة بالروس. لو وعدكم الروس بإعطائكم سبع تفاحات فهم سيعطونها، أما إذا وعدكم الأميركيون بـ 100 تفاحة فستجدون الصندوق فارغاً. الأميركيون يعدون ولا يعطون شيئاً». نصح بالذهاب الى موسكو. النصيحة نفسها وجّهها منّاع، لاحقاً، الى مؤتمر المعارضة في القاهرة. قال لهم: «اذهبوا الى موسكو، لا إلى نيويورك، إن كنتم تريدون حلاً».
عرض الرئيس الفلسطيني على هيئة التنسيق مساعدة مالية. ردّ هيثم منّاع: «نحن نشكرك جزيل الشكر. حاجتنا الأولى الآن هي للمساعدة السياسية». حينها، أهداه «أبو مازن» مسبحتين عليهما علم فلسطين، واحدة له والأخرى لحسين العودات.
سعى «أبو مازن» الى إبقاء اتصالاته تلك بعيدة عن أعين الأميركيين والفرنسيين. لكن، كيف يمكن الابتعاد وأجهزة الاستخبارات الغربية تتابع وتراقب وتوظّف وتحرك؟. لم يكن صعباً على الاستخبارات الفرنسية رصد تلك اللقاءات. ساهم في ذلك أن وفد هيئة التنسيق كان موجوداً في الفندق نفسه الذي نزل فيه وفد من المعارضة الليبية.
الأمير تميم كان إيجابياً إلى أقصى حد خلال لقائه وفد هيئة التنسيق (أ ف ب)
انتشر خبر اللقاءات. وصل الى قطر. حين التقى خالد العطية (وزير الخارجية الحالي) بالقيادي في هيئة التنسيق عبد العزيز الخيِّر، بادره بالقول: «نحن نعرف أن هيثم منّاع التقى السفير الروسي في جنيف قبل توجهه الى القاهرة، لكننا نعرف كيف نشتري موقف الروس». أجابه الخيِّر: «القضية أهم بكثير من أي مبلغ في العالم بالنسبة إلى الروس. سوريا محور استراتيجي أساسي لهم في المنطقة لن يتنازلوا عنه مهما كانت المبالغ كبيرة». بقي المال هاجس الراغبين بقلب النظام السوري بالقوة. في إحدى المرات، قال مسؤول قطري: «والله لم نترك مسؤولاً لم نشتره. يا أخي والله اشترينا الكثير من أعضاء الكونغرس ولم نفلح».
تميم: مع الحل السلمي
في تلك الفترة، التقى منّاع ووفد كبير من هيئة التنسيق ولي عهد قطر الأمير (الحالي) تميم. وفق رواية أحد أعضاء الوفد، فإن «الأمير تميم كان إيجابياً الى أقصى حد. قال إنه، شخصياً، يدعم خط هيئة التنسيق وسيدافع عنه. وأكد ضرورة حقن الدماء وتجنب السلاح والبحث عن حل سلمي للحراك».
كانت لغة الأمير تميم مغايرة تماماً لتلك التي يستخدمها رئيس الوزراء آنذاك. كان حمد بن جبر آل ثاني يريد، مع وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، استخدام كل الوسائل، بما فيها العسكرية لإسقاط النظام السوري بالقوة.
قال الأمير تميم لمنّاع: «أنا التقيت بك مرة واحدة، والوالدة (الشيخة موزة) مرة أخرى. لماذا لا تقابل المسؤولين الآخرين؟». ابتسم منّاع ابتسامته المعهودة، التي غالباً ما تختصر موقفاً سياسياً كبيراً، وأجاب: «أنا أبتعد عادة عن الحكام». ضحك الجميع. لم يستمر الضحك طويلاً. عملت قطر بعدها، ولمدة طويلة، مع السعودية ودول غربية على إبعاد هيئة التنسيق عن أي اجتماع أو مؤتمر، ثم اشترطت عليها ــــ لأي مشاركة ــــ أن تكون جزءاً من الائتلاف السوري المعارض. شرط لا تزال الهيئة ترفضه حتى اليوم، معتبرة أن الائتلاف صنيعة الخارج ولا يمثل المعارضة.
«أبو مازن» يموّل المعارضة؟
بقي «أبو مازن» على خط هيئة التنسيق مؤمناً بأنها، مع معارضة الداخل وبعض الأطراف المعارضة في الخارج، تستطيع أن تحاور السلطة وتصل الى حل. يقال إن ضغوطاً أميركية وأوروبية وخليجية مورست عليه للتخفيف من تلك العلاقة. يقال، أيضاً، إن نصائح أسديت له بالتواصل مع المجلس الوطني ثم الائتلاف. بعض الروايات المعارضة تؤكد أن «أبو مازن» دفع أموالاً لبعض من هم في المجلس. ثمة من يشير الى أسماء ميشال كيلو وعمار القربي ورضوان زيادة. لا أحد يستطيع الجزم بهذا الأمر، لكنها واحدة من الروايات التي تدور في كواليس التواصل.
غسان سلامة على الخط
في تلك الكواليس، كان الرئيس الفلسطيني يوسّع دائرة التشاور. سعى الى الوقوف على آراء مجموعة من الخبراء. اجتمع بكل من مروان المعشر رئيس الوزراء الأردني السابق، والدكتورة ريما خلف، والدكتور غسان سلامة والدبلوماسي الأخضر الإبراهيمي. استمع الى شروحات مفصلة عن كيفية الخروج بتسوية سلمية للأزمة السورية. في تلك الجلسات، وُضع عدد من التصورات القادرة على الجمع بين موقف الدولة السورية والمعارضة. كان الاتجاه العام هو لتحسين شكل النظام وتطويره، لا لتغييره. ثمة روايات تؤكد أن جزءاً من حركة الإبراهيمي في جنيف استند الى نصائح سلامة بعد اللقاءات مع «أبو مازن» والمعارضة. ثمة من يذهب، أبعد من ذلك، الى الحديث عن دور سلامة في المساهمة في صياغة بنود «جنيف 1». لا أحد يستطيع الجزم.
عمل «أبو مازن»، أيضاً، على عقد لقاءات في عمان لبعض أطراف المعارضة. اعتذر منّاع عن عدم الذهاب. كانت ذريعته أنه إذا ذهب الى الأردن فلا بد له من زيارة مخيم الزعتري، لكن أسباباً أمنية تمنعه من ذلك.
في اللقاءات بين عباس ومناع وقيادات هيئة التنسيق، طُرحت أفكار كثيرة لبناء الثقة. بينها، مثلاً: «الإفراج عن معتقلي هيئة التنسيق، الإفراج عن النساء والمعاقين، فك الحصار وإجراءات من الطرفين لبناء الثقة بين المعارضة والسلطة».
اغتيال في براغ
تكثفت الضغوط على «أبو مازن». تعدّدت الطلبات للانفتاح على المعارضة في تركيا. وجد الطرف الفلسطيني نفسه في شبكة معقّدة من تضارب المصالح. اختار الرئيس الفلسطيني أن يبقي الخيوط مع الجميع. طرح في بعض الاجتماعات وجود مسؤولين عسكريين. وصلت الاتصالات الى بعض ضباط «الجيش الحر». فجأة، اغتيل السفير الفلسطيني في براغ جمال الجمل. قيل إنه قتل في حادث عرضي بعد انفجار عبوة في خزانة قديمة في منزله. العائلة شكّكت، وقالت إن الخزانة تستخدم منذ فترة طويلة. ثمة من يعتقد أن سبب الاغتيال موجود في خزائن مُحكمة الإقفال على أسرار لن تُكشف قبل فترة طويلة، وربما ليس قبل أن ينجلي غبار المعارك في سوريا. هذا إذا كُشفت.
سعى عباس الى توسيع شبكة الاتصالات منذ عام 2012. فتح خطوطاً مع القربي وكيلو و«مجموعة أميركا». تبيّن، لاحقاً، أن الكثير من نقاط اتفاق الدوحة كانت قد نوقشت بين «أبو مازن» وهيئة التنسيق وبعض أطراف المعارضة الأخرى، وخصوصاً معارضة الداخل.
أبقى اتصالاته مع موسكو أيضاً. يذكر أحد أعضاء هيئة التنسيق أن مناع ورجاء الناصر كانا في العاصمة الروسية في آذار الماضي، فاتصل «أبو مازن» ناصحاً بأن يبقى وفد هيئة التنسيق فيها بضعة أيام. أجابه مناع: «لا أستطيع. لديّ موعد في إيران مع علي أكبر صالحي»، فأصرّ عباس قائلاً: «نحن نحمل مبادرة للتسوية لكم». كانت تلك المبادرة التي حملها إليه الوزير اللبناني السابق كريم بقرادوني الى عمان (راجع الحلقة الأولى من هذه الوثائق).
مصر والجيش السوري
كانت مصر أيضاً على خط الاتصالات. دخل وزير الخارجية الجديد نبيل فهمي في أجوائها. منذ تولّيه مهماته، بدأ فهمي يعبّر عن مناخ جديد في مصر لصالح التسوية السلمية في سوريا والحفاظ على الجيش السوري. يصفه مناع بأنه «أذكى وزير خارجية منذ سنوات. دقيق، حازم يعرف كيف يختصر وقته ووقت زائره بتحديد نقاط واضحة للنقاش أو التسويات».
في تلك الفترة، نُسجت علاقات بعيدة عن الأضواء بين الأجهزة المصرية والسورية. طلبت دمشق رفع العلاقة الى المستوى الدبلوماسي. طلبت القاهرة بعض المبادرات الإيجابية. تأخر الجانب السوري بالردّ، لكن العلاقات مع وزير الخارجية وليد المعلم قائمة وبأفضل بكثير مما كانت عليه سابقاً.
كان رأي عباس أن الحلّ السياسي في سوريا يتطلب تعاوناً بين أطراف المعارضة وروسيا ومصر. ركّز الرئيس الفلسطيني كثيراً على دور القاهرة بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي. كان دائماً يقول إن الجيش المصري حريص على الجيش السوري لأن في ذاكرة الجيشين تاريخاً من التعاون والأمن القومي المشترك. عمل «أبو مازن» ومناع وهيئة التنسيق كثيراً على إقناع الروس بعدم قطع العلاقة مع مصر، حتى في عهد مرسي. استمروا في العمل لتقريب القاهرة من موسكو. وقال منّاع في أحد لقاءاته مع مسؤول روسي كبير: «لا تغفلوا حضور مصر في جنيف، فدورها بات مهماً جداً، وهي قادرة على المساعدة كثيراً في التأثير الإقليمي وفي إيجاد حلول».
مناع منبوذ أميركياً وخليجياً
لماذا لم تفلح كل اتصالات الرئيس الفلسطيني مع هيئة التنسيق بإشراكها في مؤتمر جنيف؟ بعض الجواب يفهمه قارئ الوثائق من وثيقة تتعلق بلقاء جرى بين منّاع ومسؤول أميركي في جنيف في آذار 2013. بادر المسؤول الأميركي، الذي ربطته علاقة وطيدة ومصلحية بالرئيس السابق رفيق الحريري، مناع بالقول: «كل شيء يناقضنا. أنت في نيكاراغوا كنت مع خوسيه أورتيغا، وفي فنزويلا كنت مع هوغو تشافيز، وفي العراق كنت ضدنا...». سمع منّاع كلاماً مماثلاً من مسؤول خليجي كبير من أولئك الذين اعتقدوا طويلاً بأن إسقاط الأسد بالقوة بات قاب قوسين أو أدنى.
عباس بين سوريا و«حماس»
لماذا لعب «أبو مازن» كل هذه الأدوار؟ معارض سوري قريب منه يقول: «كان في ذهنه أن إنقاذ سوريا مهم للقضية الفلسطينية، لأنها لو سقطت لضاعت فلسطين. وفي ذهنه، أيضاً، أن الحل السلمي هو نقيض الحلول التي ذهبت برياحها حركة حماس. وفي ذهنه، أخيراً، أن العلاقة القوية مع سوريا وانفتاح الغرب على إيران الحليفة لسوريا يمكن أن يشكلا له سنداً لمواجهة الهجمة الأميركية الإسرائيلية عليه حالياً لفرض حل على أساس يهودية الدولة».
محاولات ربما لم تظهر كثيراً في الإعلام، لكنها لا شك أعطت بعض الثمار، وخصوصاً إذا ما علمنا أن علاقة «أبو مازن» تحسّنت كثيراً مع السلطة السورية في الأعوام الثلاثة الماضية. يُحسب له، في كل الأحوال، أنه حاول إنقاذ سوريا التي احتضنت الفلسطينيين ودعمت قضاياهم طويلاً، بينما كثير من العرب ساهموا في تدميرها.
نقد غير مسبوق
لم يتعرض مقال لحجم من النقد كالذي نشرناه في الحلقة الأولى («الأخبار»، العدد ٢٢٣٠، الاثنين ٢٤ شباط ٢٠١٤) عن دور الرئيس الفلسطيني محمود عباس في السعي إلى حل الأزمة السورية. نؤكد في هذه الحلقة الثانية والأخيرة أن كل ما نشرناه مستند الى وثائق وصور وروايات ممن ساهموا في تلك اللقاءات. ربما يضير البعض أن يلعب «أبو مازن» مثل هذا الدور. فحبذا للناقدين أن ينشروا ما يناقض أو يصحح هذه الروايات، إذا كانت لديهم رواية أخرى. أما إذا كان المستهدف منها «أبو مازن»، فهذا أمر آخر.
______
جرى اللقاء الثاني في الفندق نفسه قبيل المبادرة العربية. اقترح عباس ذهاب وفد من هيئة التنسيق للقاء وزير الخارجية المصري نبيل العربي. قال منّاع: «ليس عندي مشكلة معه، فهو رجل أحترم مواقفه». كلّف عباس كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات الاتصال بالعربي. فوجئ الوزير المصري بالطلب، وسارع الى القول: «أنا مش عايز أشوف هيثم المالح». ضحك عريقات، وقال: «لا. لا. أنا أحدثك عن هيثم منّاع»، فأجاب العربي: «آه، ده رجل محترم». تحادث منّاع والعربي مباشرة عبر الهاتف وحُدّد موعد اللقاء.
يعرف محمود عباس عائلة منّاع جيداً (اسمها الحقيقي هو العودات، وقد حمل هذا الاسم من زوجته الراحلة لظروف خاصة، علماً بأن منّاع قريب لنائب الرئيس السوري فاروق الشرع وللكاتب المعارض حسين العودات). كان «أبو مازن»، في شبابه، يزور درعا، ويوزع روزنامات حركة فتح بعيد تأسيسها للحصول على دعم مادي. آنذاك، تعرف على والد هيثم في المنطقة التي انطلقت منها شرارة الأزمة السورية، وعبرها قد تمر شرارات أزمات أخرى إذا استمر الخيار العسكري قائماً.
ذهب منّاع مع عدد من رفاقه الى القاهرة. كان اللقاء مع العربي ودياً وأكثر ميلاً الى الحل السياسي. جرى البحث في عدد من الاحتمالات. تعزّز الحوار في جلسات لاحقة، حضر بعضها أيضاً الكاتب سمير عيطة. في تلك اللقاءات مع «أبو مازن» والعربي، وُضعت البذور الأولى للمبادرة العربية التي تغيّرت مضامينها لاحقاً مع الدخول الخليجية، وتحديداً دخول القطري والسعودي على الخط. في تلك اللقاءات أيضاً، وضعت بعض بذور الحل في جنيف وآفاق التسوية السياسية مع السلطة.
«أبو مازن»: لا أثق بأميركا
نصائح «أبو مازن» لوفد هيئة التنسيق كانت لافتة. في أحد اللقاءات قال لهم: «كل الناس تعتبرني رجل أميركا. ربما نحن أخطأنا بحصرية الاعتماد على الأميركيين في مرحلة معينة، فلا تكرروا خطأنا. لا تعفّسوا كما عفّسنا». قالها باللهجة الدارجة، مضيفاً: «أنا أكثر ثقة بالروس. لو وعدكم الروس بإعطائكم سبع تفاحات فهم سيعطونها، أما إذا وعدكم الأميركيون بـ 100 تفاحة فستجدون الصندوق فارغاً. الأميركيون يعدون ولا يعطون شيئاً». نصح بالذهاب الى موسكو. النصيحة نفسها وجّهها منّاع، لاحقاً، الى مؤتمر المعارضة في القاهرة. قال لهم: «اذهبوا الى موسكو، لا إلى نيويورك، إن كنتم تريدون حلاً».
عرض الرئيس الفلسطيني على هيئة التنسيق مساعدة مالية. ردّ هيثم منّاع: «نحن نشكرك جزيل الشكر. حاجتنا الأولى الآن هي للمساعدة السياسية». حينها، أهداه «أبو مازن» مسبحتين عليهما علم فلسطين، واحدة له والأخرى لحسين العودات.
سعى «أبو مازن» الى إبقاء اتصالاته تلك بعيدة عن أعين الأميركيين والفرنسيين. لكن، كيف يمكن الابتعاد وأجهزة الاستخبارات الغربية تتابع وتراقب وتوظّف وتحرك؟. لم يكن صعباً على الاستخبارات الفرنسية رصد تلك اللقاءات. ساهم في ذلك أن وفد هيئة التنسيق كان موجوداً في الفندق نفسه الذي نزل فيه وفد من المعارضة الليبية.
الأمير تميم كان إيجابياً إلى أقصى حد خلال لقائه وفد هيئة التنسيق (أ ف ب)
انتشر خبر اللقاءات. وصل الى قطر. حين التقى خالد العطية (وزير الخارجية الحالي) بالقيادي في هيئة التنسيق عبد العزيز الخيِّر، بادره بالقول: «نحن نعرف أن هيثم منّاع التقى السفير الروسي في جنيف قبل توجهه الى القاهرة، لكننا نعرف كيف نشتري موقف الروس». أجابه الخيِّر: «القضية أهم بكثير من أي مبلغ في العالم بالنسبة إلى الروس. سوريا محور استراتيجي أساسي لهم في المنطقة لن يتنازلوا عنه مهما كانت المبالغ كبيرة». بقي المال هاجس الراغبين بقلب النظام السوري بالقوة. في إحدى المرات، قال مسؤول قطري: «والله لم نترك مسؤولاً لم نشتره. يا أخي والله اشترينا الكثير من أعضاء الكونغرس ولم نفلح».
تميم: مع الحل السلمي
في تلك الفترة، التقى منّاع ووفد كبير من هيئة التنسيق ولي عهد قطر الأمير (الحالي) تميم. وفق رواية أحد أعضاء الوفد، فإن «الأمير تميم كان إيجابياً الى أقصى حد. قال إنه، شخصياً، يدعم خط هيئة التنسيق وسيدافع عنه. وأكد ضرورة حقن الدماء وتجنب السلاح والبحث عن حل سلمي للحراك».
كانت لغة الأمير تميم مغايرة تماماً لتلك التي يستخدمها رئيس الوزراء آنذاك. كان حمد بن جبر آل ثاني يريد، مع وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، استخدام كل الوسائل، بما فيها العسكرية لإسقاط النظام السوري بالقوة.
قال الأمير تميم لمنّاع: «أنا التقيت بك مرة واحدة، والوالدة (الشيخة موزة) مرة أخرى. لماذا لا تقابل المسؤولين الآخرين؟». ابتسم منّاع ابتسامته المعهودة، التي غالباً ما تختصر موقفاً سياسياً كبيراً، وأجاب: «أنا أبتعد عادة عن الحكام». ضحك الجميع. لم يستمر الضحك طويلاً. عملت قطر بعدها، ولمدة طويلة، مع السعودية ودول غربية على إبعاد هيئة التنسيق عن أي اجتماع أو مؤتمر، ثم اشترطت عليها ــــ لأي مشاركة ــــ أن تكون جزءاً من الائتلاف السوري المعارض. شرط لا تزال الهيئة ترفضه حتى اليوم، معتبرة أن الائتلاف صنيعة الخارج ولا يمثل المعارضة.
«أبو مازن» يموّل المعارضة؟
بقي «أبو مازن» على خط هيئة التنسيق مؤمناً بأنها، مع معارضة الداخل وبعض الأطراف المعارضة في الخارج، تستطيع أن تحاور السلطة وتصل الى حل. يقال إن ضغوطاً أميركية وأوروبية وخليجية مورست عليه للتخفيف من تلك العلاقة. يقال، أيضاً، إن نصائح أسديت له بالتواصل مع المجلس الوطني ثم الائتلاف. بعض الروايات المعارضة تؤكد أن «أبو مازن» دفع أموالاً لبعض من هم في المجلس. ثمة من يشير الى أسماء ميشال كيلو وعمار القربي ورضوان زيادة. لا أحد يستطيع الجزم بهذا الأمر، لكنها واحدة من الروايات التي تدور في كواليس التواصل.
غسان سلامة على الخط
في تلك الكواليس، كان الرئيس الفلسطيني يوسّع دائرة التشاور. سعى الى الوقوف على آراء مجموعة من الخبراء. اجتمع بكل من مروان المعشر رئيس الوزراء الأردني السابق، والدكتورة ريما خلف، والدكتور غسان سلامة والدبلوماسي الأخضر الإبراهيمي. استمع الى شروحات مفصلة عن كيفية الخروج بتسوية سلمية للأزمة السورية. في تلك الجلسات، وُضع عدد من التصورات القادرة على الجمع بين موقف الدولة السورية والمعارضة. كان الاتجاه العام هو لتحسين شكل النظام وتطويره، لا لتغييره. ثمة روايات تؤكد أن جزءاً من حركة الإبراهيمي في جنيف استند الى نصائح سلامة بعد اللقاءات مع «أبو مازن» والمعارضة. ثمة من يذهب، أبعد من ذلك، الى الحديث عن دور سلامة في المساهمة في صياغة بنود «جنيف 1». لا أحد يستطيع الجزم.
عمل «أبو مازن»، أيضاً، على عقد لقاءات في عمان لبعض أطراف المعارضة. اعتذر منّاع عن عدم الذهاب. كانت ذريعته أنه إذا ذهب الى الأردن فلا بد له من زيارة مخيم الزعتري، لكن أسباباً أمنية تمنعه من ذلك.
في اللقاءات بين عباس ومناع وقيادات هيئة التنسيق، طُرحت أفكار كثيرة لبناء الثقة. بينها، مثلاً: «الإفراج عن معتقلي هيئة التنسيق، الإفراج عن النساء والمعاقين، فك الحصار وإجراءات من الطرفين لبناء الثقة بين المعارضة والسلطة».
اغتيال في براغ
تكثفت الضغوط على «أبو مازن». تعدّدت الطلبات للانفتاح على المعارضة في تركيا. وجد الطرف الفلسطيني نفسه في شبكة معقّدة من تضارب المصالح. اختار الرئيس الفلسطيني أن يبقي الخيوط مع الجميع. طرح في بعض الاجتماعات وجود مسؤولين عسكريين. وصلت الاتصالات الى بعض ضباط «الجيش الحر». فجأة، اغتيل السفير الفلسطيني في براغ جمال الجمل. قيل إنه قتل في حادث عرضي بعد انفجار عبوة في خزانة قديمة في منزله. العائلة شكّكت، وقالت إن الخزانة تستخدم منذ فترة طويلة. ثمة من يعتقد أن سبب الاغتيال موجود في خزائن مُحكمة الإقفال على أسرار لن تُكشف قبل فترة طويلة، وربما ليس قبل أن ينجلي غبار المعارك في سوريا. هذا إذا كُشفت.
سعى عباس الى توسيع شبكة الاتصالات منذ عام 2012. فتح خطوطاً مع القربي وكيلو و«مجموعة أميركا». تبيّن، لاحقاً، أن الكثير من نقاط اتفاق الدوحة كانت قد نوقشت بين «أبو مازن» وهيئة التنسيق وبعض أطراف المعارضة الأخرى، وخصوصاً معارضة الداخل.
أبقى اتصالاته مع موسكو أيضاً. يذكر أحد أعضاء هيئة التنسيق أن مناع ورجاء الناصر كانا في العاصمة الروسية في آذار الماضي، فاتصل «أبو مازن» ناصحاً بأن يبقى وفد هيئة التنسيق فيها بضعة أيام. أجابه مناع: «لا أستطيع. لديّ موعد في إيران مع علي أكبر صالحي»، فأصرّ عباس قائلاً: «نحن نحمل مبادرة للتسوية لكم». كانت تلك المبادرة التي حملها إليه الوزير اللبناني السابق كريم بقرادوني الى عمان (راجع الحلقة الأولى من هذه الوثائق).
مصر والجيش السوري
كانت مصر أيضاً على خط الاتصالات. دخل وزير الخارجية الجديد نبيل فهمي في أجوائها. منذ تولّيه مهماته، بدأ فهمي يعبّر عن مناخ جديد في مصر لصالح التسوية السلمية في سوريا والحفاظ على الجيش السوري. يصفه مناع بأنه «أذكى وزير خارجية منذ سنوات. دقيق، حازم يعرف كيف يختصر وقته ووقت زائره بتحديد نقاط واضحة للنقاش أو التسويات».
في تلك الفترة، نُسجت علاقات بعيدة عن الأضواء بين الأجهزة المصرية والسورية. طلبت دمشق رفع العلاقة الى المستوى الدبلوماسي. طلبت القاهرة بعض المبادرات الإيجابية. تأخر الجانب السوري بالردّ، لكن العلاقات مع وزير الخارجية وليد المعلم قائمة وبأفضل بكثير مما كانت عليه سابقاً.
كان رأي عباس أن الحلّ السياسي في سوريا يتطلب تعاوناً بين أطراف المعارضة وروسيا ومصر. ركّز الرئيس الفلسطيني كثيراً على دور القاهرة بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي. كان دائماً يقول إن الجيش المصري حريص على الجيش السوري لأن في ذاكرة الجيشين تاريخاً من التعاون والأمن القومي المشترك. عمل «أبو مازن» ومناع وهيئة التنسيق كثيراً على إقناع الروس بعدم قطع العلاقة مع مصر، حتى في عهد مرسي. استمروا في العمل لتقريب القاهرة من موسكو. وقال منّاع في أحد لقاءاته مع مسؤول روسي كبير: «لا تغفلوا حضور مصر في جنيف، فدورها بات مهماً جداً، وهي قادرة على المساعدة كثيراً في التأثير الإقليمي وفي إيجاد حلول».
مناع منبوذ أميركياً وخليجياً
لماذا لم تفلح كل اتصالات الرئيس الفلسطيني مع هيئة التنسيق بإشراكها في مؤتمر جنيف؟ بعض الجواب يفهمه قارئ الوثائق من وثيقة تتعلق بلقاء جرى بين منّاع ومسؤول أميركي في جنيف في آذار 2013. بادر المسؤول الأميركي، الذي ربطته علاقة وطيدة ومصلحية بالرئيس السابق رفيق الحريري، مناع بالقول: «كل شيء يناقضنا. أنت في نيكاراغوا كنت مع خوسيه أورتيغا، وفي فنزويلا كنت مع هوغو تشافيز، وفي العراق كنت ضدنا...». سمع منّاع كلاماً مماثلاً من مسؤول خليجي كبير من أولئك الذين اعتقدوا طويلاً بأن إسقاط الأسد بالقوة بات قاب قوسين أو أدنى.
عباس بين سوريا و«حماس»
لماذا لعب «أبو مازن» كل هذه الأدوار؟ معارض سوري قريب منه يقول: «كان في ذهنه أن إنقاذ سوريا مهم للقضية الفلسطينية، لأنها لو سقطت لضاعت فلسطين. وفي ذهنه، أيضاً، أن الحل السلمي هو نقيض الحلول التي ذهبت برياحها حركة حماس. وفي ذهنه، أخيراً، أن العلاقة القوية مع سوريا وانفتاح الغرب على إيران الحليفة لسوريا يمكن أن يشكلا له سنداً لمواجهة الهجمة الأميركية الإسرائيلية عليه حالياً لفرض حل على أساس يهودية الدولة».
محاولات ربما لم تظهر كثيراً في الإعلام، لكنها لا شك أعطت بعض الثمار، وخصوصاً إذا ما علمنا أن علاقة «أبو مازن» تحسّنت كثيراً مع السلطة السورية في الأعوام الثلاثة الماضية. يُحسب له، في كل الأحوال، أنه حاول إنقاذ سوريا التي احتضنت الفلسطينيين ودعمت قضاياهم طويلاً، بينما كثير من العرب ساهموا في تدميرها.
نقد غير مسبوق
لم يتعرض مقال لحجم من النقد كالذي نشرناه في الحلقة الأولى («الأخبار»، العدد ٢٢٣٠، الاثنين ٢٤ شباط ٢٠١٤) عن دور الرئيس الفلسطيني محمود عباس في السعي إلى حل الأزمة السورية. نؤكد في هذه الحلقة الثانية والأخيرة أن كل ما نشرناه مستند الى وثائق وصور وروايات ممن ساهموا في تلك اللقاءات. ربما يضير البعض أن يلعب «أبو مازن» مثل هذا الدور. فحبذا للناقدين أن ينشروا ما يناقض أو يصحح هذه الروايات، إذا كانت لديهم رواية أخرى. أما إذا كان المستهدف منها «أبو مازن»، فهذا أمر آخر.
______
ليست هناك تعليقات:
Write commentsشكرا